لا يزال الدكتور عبدالله بشارة أمين عام مجلس التعاون الخليجي السابق بكامل لياقته ولباقته المعهودة منذ الثمانينات من القرن الماضي، ترتسم على محياه ابتسامة وادعة مع كل سؤال نطرحه عليه، ويثني كثيرا على منجز قادة الخليج متمثلا في تأسيس مجلس التعاون، والذي يصفه بالنجاح والجزء الصحيح من الجسد العربي.. وطالب بشارة في حوار أجرته «عكاظ» أمس في الدوحة بالتحول إلى الاتحاد الخليجي كون زخم الأحداث وخطورتها تدفع القادة إلى تجديد الدعوة للانطلاق نحو الاتحاد بمواقف محددة، وتأمين جبهة موحدة تجاه إيران، للحد من اندفاعاتها الطائفية الإقليمية وهنا نص حوارنا معه: أين أنت من مجلس التعاون بعد عقدين من الحضور النشط واللافت؟ مازلت أعمل في أمانة المجلس بكل فخر كون هذا المجلس حلم تحول إلى حقيقة، ولا أبالغ إن قلت أن تصورات المجلس التي رسمها قادته في سنواته الأولى نجحت وأنا أتحدث عن تجربة عشتها شخصيا، وتابعت خلالها الجهود التي بذلها القادة لتحقيق الأهداف التي جاءت في تصوراتهم، إذ كان قرار قادة الخليج في تأسيس المجلس استلهاما لمنطق التاريخ بضرورات مواجهة المخاطر بموقف خليجي جماعي يحد من تهديداتها. على ماذا تعول في نجاح واستمرار المجلس؟ على الحكمة الخليجية المتوارثة في الاتزان والتعقل تحصينا لسلامة المنطقة من أذى مغامرات المتهورين، المدفوعين بالتوسع الإقليمي والمتشربين بأوهام مسؤولية التغيير ليس في أوطانهم فقط، وإنما داخل دول المجلس. ما أبرز ما اضطلع به المجلس منذ تأسيسه؟ لم أكن أتصور بأن قرار قادة مجلس التعاون إنشاء المجلس في 25 مايو 1981 سيضع على أكتاف المجلس مأمورية عربية وإقليمية وعالمية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، بأبعاد لها صلة بالأمن والاستقرار إقليميا وعربيا وعالميا. أيهما أكثر تعقيدا زمن تأسيس المجلس أم زمننا هذا؟ كانت لائحة الأعباء إبان تأسيس المجلس متعددة ومعقدة، بدءا من ضرورة وقف الحرب العراقية – الإيرانية، بحشد عربي ودولي لمنعها من الوصول إلى تراب الخليج، والحفاظ على توازن القوى، ومقاومة تغيير النظام الاقليمي، وتأمين موقف عربي موحد، وخلق وعي عالمي مؤيد لمساعي المجلس، وممارسة الضغوط على الطرفين لوقف القتال، والتصدي لجهود إيران التي تريد بناء راديكالية خليجية مذهبية مساندة لها داخل دول المجلس. ما الذي لفت انتباهك وأنت تسهم في تأسيس وحدة خليجية مع القادة؟ لفتني وشدني ما كان يحمله القادة من غيرة وطنية عميقة للحفاظ على الدولة الخليجية بحدودها المرسومة منذ الحرب العالمية الأولى، وعزمهم على ترسيخ الالتصاق الشعبي بتراب الوطن، وتعظيم الاعتزاز بالشرعية التاريخية الخليجية، وإدراك قادة المجلس بأن قوة الدولة الخليجية تتواجد في التفاعل المتوارث بين مؤسسات الحكم وبين المواطنين. هل حصر المجلس نفسه في قضايا شعوب دوله؟ كان انطلاق المجلس في خطواته الأولى عربيا، يسعى لبناء علاقات بين الدول العربية يحترم فيها الجميع سيادة الدولة الوطنية دون تدخلات، وتأسيس شراكة خليجية-عربية تقوم على التفاهم السياسي والانتفاع الاقتصادي والتداخل الثقافي في أجواء من الألفة، كما انطلق المجلس، تنفيذا للمسؤولية الخليجية في وقف الحرب، في إقناع بغداد وطهران بعدم جدوى الاقتتال، وأنها حرب بلا نصر، مع التلويح لكل من الطرفين، بمخاطر العبث في الاقتراب من منابع النفط التي تشكل العمود الصلب للأمن والاستقرار العالميين. ما مدى إسهام المجلس في حلحلة الإشكالات؟ عمل المجلس المستحيل لتحقيق مأموريته في أجواء عدائية أفرزتها الحرب بين العراق البعثي - وإيران الثورة، والعداء المستحكم بين بعث العراق وبعث سوريا، ومواجهة الأحزاب العربية والتكتلات السياسية ضد مصر بعد اتفاق السلام مع اسرائيل، وتبني إيران نشر الثورية المذهبية الراديكالية وتجاهلها لقواعد السلوك الدولي وقواعد حسن الجوار، وانعدام الأمل في حل عادل لقضية فلسطين، وحمل المجلس هذه اللائحة الثقيلة من عام 1981 حتى عام 1991، ونجح في تطويق التهديدات الإيرانية وأفشل فرصها بالفوز في الحرب، ودخل مدافعا عن الأراضي العراقية، وحشد العالم لحماية دول المجلس والحافظ على توازن القوى، ودعم العراق في دعوته لوقف القتال، ثم نجح المجلس مرة أخرى، في تحرير الكويت من الغزو العراقي، وخرج بعد عشر سنوات من قيامه والدولة الوطنية الخليجية بعافية، وترابها مصون، واستقلالها راسخ. حاليا ما أبرز الملفات التي يضعها المجلس في قائمة أولوياته؟ هناك خمسة موضوعات ذات حيوية خاصة في دبلوماسية مجلس التعاون الحالية هي ملف الطاقة، والارهاب، ومخاطر الطائفية، والحوار مع إيران، ومستقبل الوضع العربي. ماذا يسكن ذاكرتك من صعوبات المرحلة؟ عشت أجواء الصدام وانعدام الثقة التي تسيدت مناقشات الأممالمتحدة بعد حظر النفط، ولمست الفزع الذي أصاب فقراء الدول النامية، وشعرت بتوجهات غربية بقيادة الولاياتالمتحدة نحو استراتيجية نفطية من خارج دول النفط العربية، قوامها التكنولوجيا الحديثة والبحث عن بدائل والاتساع في التنقيب عن منابع الطاقة المتجددة، ومع ذلك، ظل الترابط الخليجي - العالمي مساهما رئيسيا في استقرار هذا الكون، اعتمادا على حقائق من أبرزها خصوصية الطاقة التي يملكها قليلون ويحتاجها الكثيرون ولا ازدهار بدونها، ولا استقرار في غيابها، أعطت دول الخليج شيئا اسمه في لغة الأممالمتحدة قوة الندرة. متى أعطى النفط لدول الخليج وهجا؟ عند مجيء الرئيس الجزائري الهواري بومدين ليفتح ملف النظام الاقتصادي العالمي الظالم للدول النامية في الأممالمتحدة، شعرت بأن النفط أعطى لدول الخليج وهج القوة وحجز لها مكانا مميزا في مداولات المال والاقتصاد، ورفع مقامها السياسي ووضعها في موقع استراتيجي يمس أمن العالم وازدهاره. هل خفت الوهج؟ واقع اليوم مخالف لما اعتدنا عليه في الموقع الخليجي المميز، فالتكنولوجيا الحديثة وفرت النفط الصخري وبأسعار صارت مقبولة مع التطور التكنولوجي، وهنا يبرز التحدي الذي فجرته تكنولوجيا النفط الصخري للدول الخليجية المنتجة، فأهم شيء أن لا تفقد منابع دول الخليج وهجها ولا تتأثر ندرتها، لأن الكلفة باهظة داخليا وعربيا وعالميا، سياسيا واقتصاديا وتنمويا، ولا مفر من الوقفة الخليجية الجماعية للتفاهم مع كبار المستهلكين في إطار حوار داخل الأوبيك أو خارجها. كيف ترى خطر الإرهاب وتعطيله للتنمية؟ الإرهاب وحش متربص بالخليج وبالعالم، ويتنوع علاج الإرهاب من المشاركة في الائتلاف العالمي إلى صلابة الوحدة الوطنية على قاعدة الإجماع الشعبي، واتساع قنوات الحوار، وضم كل الأطياف في عقد سياسي شامل وعازم مع حشد القوى الوطنية وضخ موجات الأمل لدى الشباب وبناء منظومة التكافل بين أبناء الوطن مع إغلاق المنافذ التي يتسلل منها لتقويض النظام الخليجي، مع تأكيد أهمية مراجعة نظام التعليم والإصرار على متانة المواطنة والتعالي عن المذهبيات، ومحاربة الغلو، والتأكيد على أن الاسلام دين الوسطية والتسامح والاعتدال. إلى أي مدى يمكن للحوار مع إيران أن يطفئ التوتر بين العرب وإيران؟ كان الحوار مع دول الجوار أبرز معالم الاستراتيجية الخليجية التي رسمها القادة، لاسيما مع إيران التي تتبنى دبلوماسية راديكالية غير مألوفة، تتناقض مع قواعد السلوك الدولي، ولقد قرر قادة الخليج في القمة الثامنة التي عقدت في الرياض بين 26 – 29 ديسمبر 1987، بدء حوار مع إيران يعتمد على عشرة مبادئ مستوحاة من ميثاق الأممالمتحدة، وقواعد حسن الجوار وبناء الثقة، وتم تسليمها إلى إيران رسميا على أن تشكل الأرضية للحوار ولم تعط إيران تلك الوثيقة الجدية التي تستحقها لأنها لا تتناسب مع مضمون الخطاب السياسي الإيراني، وظلت العلاقات بين الدول الأعضاء وإيران تدار ثنائيا وفق قاعدة «صد المخاطر» والنأي عن الانزلاق في خصومات، رغم مواصلة التحريض من قبل الإعلام الإيراني، وإيران لا يقلقني برنامجها النووي لأنها لا تستطيع استعماله قدر ما تقلقني ثوريتها. كيف هو حال المجلس اليوم؟ واضح بأن مجلس التعاون يصوغ الآن نظاما عربيا جديدا، برزت بعض خطوطه، كما نراها في عملية تأكيد الشرعية في اليمن، ومقاومة التسلل الطائفي من قبل مجموعات الإرهاب، ويهدف هذا النظام إلى تأسيس قاعدة الشرعية القانونية العربية، التي يجب أن تستند على قبول شعبي عام وعمل مؤسساتي معترف به، كما يؤكد هذا النظام الجديد شرعية كل نظام عربي ضمن الحدود الدولية المعترف بها واحترام الدولة الوطنية العربية والابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية، مع تكافل اقتصادي وتنموي وانفتاح استثماري وعلاقات قائمة على الاحترام والاطمئنان. يجتمع قادة دول الخليج في الرياض، ماذا تضع بين أيديهم؟ نطالب بالتحول إلى الاتحاد الخليجي كون زخم الأحداث وخطورتها تدفع القادة إلى تجديد الدعوة للانطلاق نحو الاتحاد بمواقف محددة، وتأمين جبهة موحدة تجاه إيران، للحد من اندفاعاتها الطائفية الاقليمية، واستمرار الاصرار على غرس مبادئ الوسطية في الاسلام ووقاية تراث القادة المؤسسين في تطلعهم إلى تنظيم العمل العربي وتحصينه من تطرف الأيديولوجيات ومن المبالغة في طرح الشعارات التي لا تناسب الهوية العربية، وتسببت بالمزيد من الانشقاقات.