في شهر يناير القادم يكون قد انقضت عشرة أعوام على انطلاق أحد أبرز مآثر الملك عبدالله - يرحمه الله - وهو مشروع تطوير القضاء، والمشروع هو عبارة عن نظام متكامل، مدعوم بآليات تطوير شاملة؛ من شأن إكمالها بنجاح، زيادة تمكين أصحاب الحقوق، وسرعة تحقيق العدل، ورد الظلم عبر التسريع بتطبيق الأحكام الشرعية، وكان من متطلبات تنفيذ المشروع، تطوير رؤية استراتيجية متكاملة، تم دعمها لا حقا بخطط تنفيذ جيدة؛ ولكنها بطيئة بعض الشيء؛ وفي تقديري، فإن التقدم الذي تم إحرازه حتى اليوم في هذا المشروع لا يتناسب مع مقدار الطموحات، ولا مع حجم المُخصّص المالي الكبير والمستقل والبالغ 7 مليارات ريال. ومنذ انطلاق المشروع، تم إحراز تقدم يمكن وصفه بال(جيد)؛ ولكنه غير كافٍ تجاه هيكلة الكيان القضائي في البلاد، وتحسين البيئة العدلية؛ بعد أن كانت تعاني من ترهل ملحوظ ومعوقات متعددة، وكان من أبرز الإنجازات التي حققها المشروع، الانتهاء من إصدار (البنية النظامية) المتمثلة في مجموعة من القوانين القضائية الرئيسية في السنتين الأخيرتين، ورغم إسهامها بشكل ملموس في هندسة وتعزيز الإجراءات العدلية والإدارية، إلا أنها لم تصل بعد لمستوى طموحات المواطنين، وترجمة توجيهات قيادتنا الرشيدة، بتطوير منظومة ناجزة وعصرية ومتجانسة للقضاء. وبدون التقليل من أهمية ما تم إنجازه، يبدو أن ثمة تحديات عديدة لا تزال تواجه إكمال مشروع تطوير الكيان القضائي، البعض منها تنظيمي، والآخر لوجيستي، ومن أهمها في تقديري ما يلي: - نقص القضاة: من أبرز ما يلفت النظر في أجهزتنا القضائية هو النقص الحاد على عدد القضاة قياسا إلى عدد القضايا أو تعداد السكان، حيث يبلغ المعدل الوطني حاليا نحو قاض واحد لكل 30 ألف مواطن؛ وهو ما يؤدي لإطالة فترة التقاضي، وتباعد المواعيد، وذلك مقابل نسبة دولية تبلع نحو 1 قاض لكل 5 آلاف شخص. - التنفيذ الجبري: ولأن العديد من المحكوم لهم يجدون صعوبة في تنفيذ الأحكام النهائية الصادرة لصالحهم من المحاكم (الإدارية)، قد يكون من المهم تعديل نظام قضاء التنفيذ ليشمل تنفيذ مثل تلك الأحكام، المكتسبة القطعية والواجبة التنفيذ ضد الأجهزة الحكومية؛ وذلك أسوة بتطبيق التنفيذ (الجبري) لأحكام المحاكم (العامة). - تقنين الأحكام: كما قد يكون من المفيد إعطاء الأولوية لمدونة تقنين الأحكام الشرعية، والتي من شأنها تحقيق 3 مطالب مهمة، أولها هو التخفيف من حدة التباين الملاحظ في الأحكام الصادرة في قضايا متشابهة، وثانيها هو تحجيم الاجتهادات القضائية، أما الثالث فهو مراعاة السعة التعددية والمذهبية في الفقه. - تعيين القضاة: ولعل من المهم النظر في توسيع معايير التعيين لتشمل خريجي أقسام النظم (القانون) في جامعاتنا، بدلا عن قصر التعيين حاليا على خريجي الفقه والشريعة في الكليات الشرعية، ولكن هذا قد يتطلب إعادة النظر أولا في فلسفتنا ورؤيتنا للقضاء بشكل شامل، وجعلهما أقرب للمعايير القضائية المطبقة في معظم؛ إن لم يكن جميع دول العالم. - القضاء النوعي: أيضا فإن من الأهمية بمكان التسريع بتطبيق القضاء المتخصص حسب التصنيف النوعي للقضايا؛ كالمحاكم التجارية والعمالية والجنائية المرورية وغيرها، وهذا يتطلب توفير الكوادر القضائية المتخصصة والمؤهلة؛ ليس فقط في مجالات اختصاص كل فرع. - إجازات القضاة: كما يأمل الكثير من المتقاضين، وضع حلول سريعة لمشكلة إدارية مزمنة، وتتمثل في الغياب المفاجئ للقضاة، وعدم التنسيق المسبق والكافي لإجازاتهم مع مرجعياتهم، ووضع آلية لإبلاغ المتقاضين مسبقا بغيابهم، حتى لا يتكبدوا عناء الحضور في المواعيد ليفاجأوا بعدم وجود ناظر القضية، وهو ما أدّى كثيرا لضياع الوقت والجهد والمال. - قصور الدعم: والمقصود بذلك قِلة عدد موظفي الدعم الفني والإداري في المحاكم والدوائر القضائية، وهو ما فاقم من مشكلة نقص القضاة، وزاد كثيرا من أعباء القضاة والكُتاب وأمناء السر. - تقنين المصلحة: حيث من المعروف أنه لا دعوى بدون مصلحة، لذلك فإن من المهم تقنين مفهوم المصلحة، وذلك توفيرا لوقت المحاكم، وعدم شغلها بنزاعات لا جدوى منها ولا حاجة للفصل فيها، وسيُتيح ذلك تركيز المحاكم على القضايا ذات المصلحة الحقيقية؛ لا الكيدية أو الوهمية. - الاختصاص القضائي: على الرغم من وجود ركائز أساسية لهذا الأمر في النظام، يتم في حالات كثيرة ترك تحديد الاختصاص للاجتهاد القضائي، وبعد مرور أشهر على متابعة الدعوى في دائرةِ ما، يفاجأ صاحب القضية بعدم الاختصاص!، لذا يستحسن استحداث جهة في المحاكم تتولى توجيه المتقاضين للدائرة المختصة وذلك قبل الشروع في نظر القضايا. - تبليغ الخصوم: ورغم التطور الذي تم مؤخرا على عملية التبليغ، إلّا أن التلاعب مستمر من خلال تحايل بعض الخصوم مع أطراف ذات صلة، لذلك فإن سن عقوبة رادعة سيسهم بلا شك في القضاء على مثل تلك التجاوزات، ووقف التلاعب الهادف لإطالة مدة التقاضي الذي يضر بمصلحة صاحب الحق، ويساعد المماطل في توظيف الثغرات النظامية لتأخير صدور الأحكام. - تسبيب الأحكام: ولعل المتابع للكثير من الأحكام الصادرة، يدرك ضعف بعضها، وعدم التكييف الشرعي أو القانوني للبعض الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى غياب تسبيب الحكم، أو أن يكون غير التسبيب صحيحا. أخيرا، أثق بأن معظم الملاحظات أعلاه لم تغب عن مقام وزارة العدل، ولا عن باقي مؤسسات المنظومة القضائية، كما يقدر الكثيرون تصميم معالي وزير العدل الشيخ د.وليد الصمعاني لإنجاز مشروع تطوير القضاء، وهذا ما يجعلني أتقدم لمعاليه بمقترح، يتعلق بمبادرة الوزارة لنشر المراحل المتبقية من المشروع، مع خطة زمنية لتنفيذ ما تبقى منها، كما سيعزز من شفافية الوزارة، قيامها بتحديد المبالغ التي تم إنفاقها من ميزانية المشروع حتى الآن، وسيظل السؤال الأبرز هو: إلى أي مدى سيحقق مشروع تطوير القضاء تطلعات المواطنين وتوجيهات ولاة الأمر؟