الحداثية كحركة طبعت الربع الأول من القرن العشرين لم تكن محدودة فقط في مستوى ثقافي بل أثبتت نفسها على جميع المستويات، كما أنها عززت تطور القيم الموروثة في ما يخص الفردانية كفهم جديد لقدرات الشخص الإبداعية. فقد تحول التفكير و الفعل البشري إلى زاوية جديدة اجتماعية و ثقافية كما أصبح يقوم على نمط التفكير الشكي و النسبي ليساهم في ظهور النظرة الشمولية للعالم، تلك النظرة التي طبعت و قوت مجيء الحركة الحداثية. بالرغم من الصعوبات التي واجهها المتخصصون في تعريف هذه الحقبة إلا أننا نستطيع أن نقبل كلمات «ليبوفتسكي»حين يقول إن أسس هذه الحركة تكمن في القوى الثقافية و الاجتماعية التي حررت الشخص من الهرمية الموروثة ومن إملاءات الأعراف والتقاليد. و كنتيجة يتحول الإنسان صوب الحرية و المساواة و المثل. فقط عند هذا المستوى يتحرر الإنسان من القوة التي تتحكم في مصيره ليصبح مستعدا للحداثة و بالتالي تتغير الخطابات و القيم البشرية. يجب علينا أولا أن نفرق بين «الحداثة» و «الحديث» و «الحداثية» قبل الخوض في الحديث عن الحركة الحداثية. أولا في ما يخص الحركة الحداثية فلا يمكننا النظر فيها بعيدا عن أعراض القيم الجمالية والوجودية التي طبعت القرن التاسع عشر، هذه الأعراض التي يمكن أن نجد لها أسسا في السياق السياسي والتاريخي و الثقافي و الاجتماعي العام للمرحلة ماقبل الثورة الفرنسية. لتتعرف أوروبا الغربية ما بعد سنة 1789 على القيم التي ستحكم العالم الجديد، تاركة وراء ظهرها النظام القديم. لقد كان وراء الصدى الذي تركه تعدد مشارب الحداثة في المثل التقدمية ميلاد الثورة العلمية والتكنولوجية وبالتالي الثورة الصناعية، هذان العاملان السالفا الذكر يعدان من الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تغيير الوضعية المادية و الإنسانية لتنتج سلسلة من الأزمات تتميز بأحاسيس القلق و اللا استقرار التي ميزت الذات الحديثة. أما في ما يخص مصطلح «الحديث» فيظهر لنا في مسار الحداثة الذي يعارض كل ماهو قديم ومؤسساتي، كما يتسم بتبنيه لوضع منفتح و متداخل في نفس الوقت يمكن الإنسان من الوصول لجوهره بعد أن أثبت التطور المادي فشله في تغذية تنميتنا الروحية. فالحداثة هي التجديد والحرية والبحث والإبداع الشخصي، وتعني أيضا كتطور فني مرحلي، المرحلة الأدبية والفنية التي طبعت أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. حيث عبر الفنانون عن أحاسيسهم المنزعجة كأفراد من خلال عرض هذا القلق في أعمالهم الفنية بالإضافة لبحثهم عن طرق إبداعية و فنية جديدة. و قد أدت كل هذه التغيرات إلى خلق نوع من النزوع المتزايد لاستقلالية الفنان بالإضافة أن المجال الفني أصبح يتسم بالتهميش والتحدي والنخبوية. كل هذا كان جليا في الأعمال التي تم إنتاجها أواخر القرن التاسع عشر، وأعمال الفنانين الأوائل والكتاب الحداثيين بالإضافة لأعمال رموز الحداثية في القرن العشرين. وقد جاءت الأسس التي قامت عليها الحركة الحداثية معارضة للحتمية كأساس من الأسس التي دافعت عليها الحركة الواقعية أو الطبيعية، ففي الرواية التي تعد النوع الأدبي المهيمن في هده الحركة، لطالما طغى فيها الأسلوب العلمي وذلك من خلال إعطاء أهمية كبرى للحقائق المرئية والتأكيد على أن القوانين الطبيعية قادرة على تفسير التغييرات المجتمعية والبشرية. إذ كان الأديب الذي ينتمي للحركة الواقعية أو الطبيعية يؤسس لعمله من منظور موضوعي للحقيقة التي يريد أن يصورها، وذلك من خلال إبداع شخوص ووضعيات حتى يبرهن على ظاهرة اجتماعية وشخصية فإن الحداثي سيرفض كل المسلمات و يؤكد على شرطية كل شيء. بالنسبة «للديوي فوكيما» تعتبر الشرطية و الشك أهم أسس الحركة الحداثية، مما يغير مفهوم «نهاية» كما عرفناه من قبل. لذلك فأي نص قابل للاستمرارية، مما يفسر النزعة الحداثية للنصوص ذات طابع الاعتراف، حيث الحبكة اعتباطية وغير متوقعة. فالتعبير الداخلي هو الأكثر أهمية وليس تفسير السلوك البشري أو وصف العالم الخارجي كمحاولة لاكتشاف حقيقة الواقع. ليأتي الإبداع الأدبي خلاقا من خلال تسلسل الأفكار و الحوارات الطويلة ذات الطابع المقالي. والعمل الأدبي هنا ليس فقط إفصاحا ذاتيا بل أكثر من ذلك تعبير عن التعقيد الداخلي الذي يتصف باللا تماسك بالإضافة لكل التناقضات البشرية. هنا تتجلى لنا الذات الحداثية مشتة وضائعة وغامضة ومتناقضة لكنها مستقلة وبرغم من انها غير اجتماعية، إلا أنها كاملة في نقائصها ولا تماسكها. إذ كان التعبير الإبداعي يسمح بدمقرطة الضمير إلا أنه وفي تناقض تام يدمر التجانس الفني. وعملية الفردنة هذه ليست محاولة لخلق نوع من النخبوية بل في حقيقة الأمر تهدف إلى الفردانية التي ستساهم في خلق تلك الكونية أو العالمية المرجوة. ومثل ما أكد «ليبوفتسكي» فالحداثة بالرغم من أنها أنتجت قطيعة مع المفهوم القديم إلا أنها مدت حبلا جد متين مع ثقافة الديمقراطية. الحركة الحداثية البرتغالية: في علاقة مع ما تمت الإشارة إليه سلفا يمكننا أن نقول بأن الحركة الحداثية لم تكن تهدف فقط إلى خلق ثورة في الطرق الفنية والثقافية بل تجاوزت ذلك إلى خلق ثورة على مستوى فردانية الإنسان. فالتفكير والفعل البشري هيمن عليه الأسلوب الشكي والنسبي الذي طبع المجتمعات الحديثة في رغبتها في التعديل والبحث للقطع مع النظم القديمة ذات الثقافة المادية الرأسمالية لصالح تجديد ثقافي اجتماعي. في البرتغال توفرت الملابسات والشخوص المناسبان لبدء ثورة ثقافية على المبادئ القديمة الجد متجذرة وذلك بسبب عدم الرضا الذي عرفته البلاد على جميع المستويات: الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي. لذلك كانت أول شرارة لهذه الثورة مع جيل السبعينيات من أواخر القرن التاسع عشر. إلا أن القوى الثقافية والاجتماعية آن ذاك كانت أقوى. فقد حاول جيل «ايس دي كيروش» تنوير العقلية البرجوازية إلا أن العادات و التقاليد كانت جد متأصلة. و بالرغم من ذلك إلا أن بذور التغيير لم تمت بل أنتجت في بعض الفنانين والمفكرين في بداية القرن العشرين حينما توفرت الشروط المناسبة للتغيير. لتشهد سنة 1912 ميلاد مجموعة مكونة من شباب لديهم نفس التوجهات عرفت باسم «جيل أورفيو» حيث بدأت هذه المجموعة برسم مسار جديد للأدب البرتغالي. من أهم أعلام هذه المجموعة نذكر : «فيرناندو بيسوا» (1935_1888) و «ماريو ودي ساكارنيرو»(1916_1890) و «لويس دي مونتلفور» (1947_1819) و «ارماند كورتش رودريكش» (1971_1891)و «انتونيو فيغو» (1956_1895). وكان الهدف الذي رسمته المجموعة هو إيصال الأدب البرتغالي للمستوى العالمي بالإضافة للترويج لأعمالهم الأدبية. في مجتمع يتسم باللامبالاة ومحدودية الأفق، تبنى هؤلاء الشباب موقفا فاضحا على عكس القيم التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع البرتغالي. بحيث ساهموا في نشر، وعلى نطاق و اسع، كل ماهو مختلف ومميز في مجلة «أورفيو» ، و ذلك بهدف زيادة الوعي الفردي و الاجتماعي بالمشهد التاريخي والثقافي والاجتماعي في مطلع القرن العشرين، متأثرين بالتوجهات التي جاءت مع مطلع القرن الجديد توجهات اتسمت بالفر دانية و اللا اجتماعية في وقت عرف مجموعة من الأزمات. فهم لم يحسوا مطلقا بانتمائهم لتلك القيم القديمة وللثقافة الوضعية التي تدافع فقط عن كل ماهو ملموس أو مرئي رافضة أن تنفتح على التوجهات الحديثة لتكون النتيجة مجلة تتبنى خطابا استفزازيا حاد اللهجة في هجومه على القيم القديمة «مغامرة أدبية نخبوية ضد الرأس مالية لمجموعة من الشباب امتلكوا من الشجاعة ما جعلهم يتحدون مجتمعهم ككل» تاركين بصمة أوروبية حديثة طبعت التوجه الجديد الذي سيعيشه العالم. ( فيلا مايور، 1996 : 79). نشرت مجلة «أورفيو»أول مرة سنة 1915 وتجلت أهميتها في كون اسمها ميّز ثلة الشعراء الذين كونوا الجيل الأول للحركة الحداثية. كان من المفترض أن يتم نشر المجلة على أربعة فصول، إلا أن فصلين فقط عرفا الوجود الأول كان في يناير و فبراير و مارس تحت إشراف «لويس دي مونتلفور»و «رولاند دي كارفاليو»، والفصل الثاني في أبريل و مايو ويونيو تحت إشراف «فيرناندو بيسوا» و «ماريو ودي ساكارنيرو». أما الإعداد للعددين فقد كان للشاب «انتونيو فيغو»الذي يعد علما كبيرا من أعلام الثقافة البرتغالية في النصف الأول من القرن العشرين. لم يتم نشر الفصل الثالث للأسف بسبب امتناع «ماريو ودي ساكارنيرو» أن يمدهم بالمصاريف اللازمة. يمكننا القول بأن «أورفيو» رسمت التغيير الكبير الذي أنتج رجالا عباقرة مثال : «فيرناندو بيسوا» و «ماريو ودي ساكارنيرو» و «المادا نيكريروش» . فهؤلاء الكتاب، وآخرون غيرهم، أحدثوا تغييرا جدريا في مفهوم الفن و دور الذات وعقدة النفس بالإضافة لتساؤلات الذات وغموض التعبير عنها. نستطيع القول بأن الحركة الحداثية تعد الباب السحري الذي جعلنا ما نحن عليه اليوم، وذلك لكونها أسست للحوار مع الثقافات الأخرى مخلفة تأثيرا كبيرا في المشهد الثقافي الأوروبي والبرتغالي. في المقالات القادمة سنحاول تسليط الضوء على بعض الكتاب البرتغاليين، وبصفة خاصة أولائك المعروفين عالميا مثل «فيرناندو بيسوا» وصاحب جائزة نوبل المعروف بعبقريته وخطابه المتميز بما بعد الحداثية «جوزيه ساراماغو».