اثنان على طرفي نقيض تحت سقفٍ واحد، تجْمع جسَديهم المُتعبين ورقةٌ لا تمت لقلبيهما بأي صلة، ثم كان النقيض حصيلة هذا الزواج الذي تصّعد تناقضه ليجعل زهرة تضع خططا مُسبقة للتملص منه قدر الإمكان، والبحث عن حياة لقَلبِها في مكان آخر مع سبق الإصرار والترصد، أما عادل يلهث خلف ما يُقربه أكثر من المال دون خُطط مسبقة ولا بديلة في حال الفشل؛ لأنه اعتاد اللعب على حبلين، كما اكتشفته مؤخرا زهرة، وهي التي تجمع الأموال لضحايا الثورة السورية ولجرحاها الذين بطشت بهم تجارة السلاح التي يمتهنها زوجها ويبيعها لجميع الأطراف هناك، وكنوع من العبث واللامسؤولية ينتظر أن يقبض المال، و لا يهم إن كانت طلقاته قد استقرت في قلب طفل أو رحم امرأة أو رأس شيخ كبير، رواية «رائحة التانغو» للكاتبة الكويتية «دلع المفتي» أخذتني إلى هناك، إلى لبنان أرض الجمال، وتنوع الثقافات، لبنان الحب والفن، هناك حيث التقت زهرة بالحياة والحب والرقص والمعرفة ثم الموت في مخيمات اللاجئين في طرابلس، وكأن قدر المرأة أن تتذوق من طرف الحياة حلاوةً ثم يكون عقابها الموت في سبيل شغفها! حين تقرأ الرواية آخر ما تعتقده هو أنها تتحدث عن الأزمة السورية، تشدك حتى آخر سطر حتى موت زهرة، ذلك الشغف بتحقيق العدالة، محاولة بائسة لإعادة كرامة الإنسانية، التي أهدرتها آلة الحرب والسياسة، أسطر رواية المفتي كانت تنضح بالإنسانية، بالحب، بالتقبل، وبالتعايش، وكأن زهرة هي أنموذج المفتي لما يجب أن تكون عليه المرأة، ثم ما المفترض أن يكون عليه المجتمع. قد أكون منحازة للأدب النسوي وأرى كثيرا أن المرأة الكاتبة والأديبة أو الروائية العربية غالبا ما يُنظر لما تكتبه أنه لا يتعدى كونه مذكرات أو خواطر، لكن أعتقد أن أدب المفتي وغيرها من الكاتبات، يستحق أن يُنظر له كأدب قادم وبقوة لرفع وعي المجتمع، دلع المفتي في رائحة التانغو نموذجا لما أعنيه، التوغل في المجتمع وإظهار سلبياته بالإضافة لإيجابياته، محاولة تسليط الضوء أكثر لما تخشى مجتمعاتنا من التصريح به، رفع الغطاء عن الجرح وتعريضه للشمس، حتى يتسنى لنا التعامل معه، وإيجاد الحلول بدل أن نمارس التغطية كل مرة، حتى تتعفن جراحنا، وينخر فيها سوس التطرف والإرهاب والعنصرية. الرواية كانت تجسيد للروائح، تبدأ برائحة البصل التي تكرهها زهرة، تصرح بأنها تملك حاسة شم تمكنها من شم المشاعر والعواطف، ثم رائحة جسد طفليها التوأم، وكتعبير عما تعطيه الأم بلا حساب «كمن يعصر كل ما به، منحت ما تملكه من حب وحنان لسارة وسالم»، وتتوالى الروائح بعد ذلك، الليمون،الزعتر، دهن الورد، العرق، و دهن العود الذي رافقها حتى النهاية، كرائحة أم مهما كبرنا نبقى في حاجة لشمها والإحساس بقربها، وإلى أن نصل نهاية الرواية مع الرائحة الأقوى، التي تنضح بها البلاد العربية، والتي تلطخ يد السياسيين، والجماعات المتطرفة، بلا أدنى شعور بالذنب، رائحة الدم كانت ختام الروائح التي ابتليت زهرة بحاسة شم قوية لتعيش معها، وتموت كذلك في كنفها. الرواية الواقعة في مائتين صفحة، جميلة، صادقة، وسردها سلس لا يمكن أن تبدأ بالسطر الأول، وبرفقة الروائح حتى تنتهي منها، وبنهاية حزينة غير متوقعة، حاولت المفتي كثيرا أن تجعل منها مرجعا لكل عاهات مجتمعاتنا الفكرية التي ضقنا بها ذرعا، أسقطت في الرواية رؤيتها الخاصة، لمجتمع يتقبل المختلف، ويتعايش معه.