في محاولة منه لإعادة دوزنة الحياة على مزاجه، وعلى شكل أحلامه التي حلم بها الطفل محمد عبده، دندن بينه وبين المسافات التي يحلم بها ليمتطيها سريعا ويرحل على الأجنحة الفضية باحثا في روح الكلمة كلما جفت بث فيها من روح وتره لتعود زاهية خضراء. ولد محمد عبده في الثاني من شهر يونيو عام 1949 ليدرج على هذه الحياة التي لم تمنحه كما منحت أبناء جيله، حيث سلبت عمود بيته مبكرا لتبدأ رحلة المعاناة التي تسكن في الجواني من الذات كجرح قديم على غشاء الروح، أو على الجبين يغطيها الزمان بغرة شعره ولا يراها إلا العارفون. نشأ على عين المدينة القديمة «جدة» وكافح منذ نعومة أظفاره ليعيش وعائلته بشكل لا يعوزهم إلى الآخرين، حيث حمل مسؤولية العائلة الصغيرة في ظل مجتمع متراحم، يمد يده للصغير محمد عبده ليشق طريقه إلى الحياة ويتعلم منها لتظل صوى له في طريق رحلته المديدة، حيث وصل إلى مصاف المشاهير في العالم العربي، كان مسجد الحي تجربته الأولى لصوت الصبي الجميل حيث امتدحه الكثيرون وأشاروا له بحسن الطلعة، محمد الذي يعنى بمسجد الحي ويقيم أذانه في ساعات الفجر، لا بد من أن يكون بؤرة المحبة والاحترام لشباب وشيوخ الحي. شغف الشاب الصغير بالبحر وركض وراء موجاته الحلمية يردها كقطيع الماعز فيسمعها تثغو في الجريان البعيد ويترك لصوته البكر العنان في النداء عليها لتركض إلى القدمين الطفلتين اللتين أحبتا البحر وكان الحلم الطفولي هو ركوب هذا العتي الجميل المشاكس، ولطالما حلم أن يكون بحارا كوالده، ويصبح هذا الحلم إخراجه وأسرته من العوز والفقر، حيث بدأ هاويا في برنامج الأطفال في إذاعة جدة عام 1960م وعمل كمردد كورس في قسم الموسيقى في المدرسة الصناعية التي كان بها الفرجة اللامتوقعة ليتحسس الحياة في الخارج ويكتشف الذات المخبأة داخل المحارة، لم يكن يعرف أن هذا الصوت الذي يدندن به حين يكون فرحا أو نزقا أو حزينا سيكون الدقل العظيم الذي يرفع سواري محمد عبده ويمخر به عباب هذه الدنيا التي بخلت عليه، فحينما ذهب الشاب عبده في الستينات من القرن المنصرم إلى روما وذلك خلال وفد من المدرسة التي انضم إليها شاءت الأقدار أن تكون وجهة هذا الوفد إلى بيروت قبلة الحب والفن والحرية. كان للإعلامي عباس غزاوي اللمسات الأولى في اكتشاف هذا الوتر الساحر، وهذه الطاقة الشابة الآخذة بالانطلاق من رحم الشعر والكتابة التي تضج بها أرض الجزيرة العربية، والملتفت إلى حياة المبدع محمد عبده يتوقف عند أسماء عديدة في الغناء والشعر واللحن كان لهم لمساتهم على المسيرة الفنية التي شكلت مدرسة مهمة في الغناء العربي الحديث. وقد تجلت العبقرية الفنية لمحمد عبده في بواكيره حينما بلغ من العمر الثانية عشرة فقد لحن أغنيته التي كتب كلماتها (خلاص ضاعت أمانينا)، حيث أنتج هذا العمل الفني توزيعات الشرق. في العام 1964 احترف محمد عبده الغناء لينطلق من بيروت إلى الكويت في العام 1965 لينطلق بباقة جديدة من أغانيه إلا أن أغنيته «ماكو فكة» التي مارست سحرها على الجمهور الكويتي منحت صاحبها مفتاح الخليج لتبدأ أسطوانات أغانيه بالانتشار، وذيوع صيت هذا الصوت الذهبي من خلال شاشات التلفزة في جميع أنحاء الوطن العربي. الشاعر لا يختلف اثنان على أن داخل هذا الصوت شاعر معذب المزاج صافي القريحة، وإذا كانت السيدة أم كلثوم تدوزن اللحن بصوتها، فإن القصائد تموسق نفسها على صوت محمد عبده، وتترك لجوانية المغني أن تنثال على اللحن، لا شك أن الداخل الجريح يولد طاقة من الإبداع خلف سور الأيام المنصرمة التي وقف فيها الطفل وحيدا يتحسس الآخرين ونفسه ليجد نفسه وترا واحدا مشدودا إلى اللاشيء، ليتآمر مع الكلمات ومع الصوت الذي يكشف سماء قريبة من الغناء والشعر القريب من الناس والعشاق الدامعة قلوبهم، عاكسة روح الشاعر الذي يمتح اللحن ويصبه في داخله ليقف على مشارف الرمال شافا بالغناء وبالحب، محمد عبده يكتب اسمه على مكان قصي، أقرب بكثير من اللحن الذي ندندنه ويشد روحه وترا ذهبيا في مساحة الإبداع العربي.