إنه الوداع يا والدي. أصعب ما قد أكتب. بل الصدق، لا أعرف ما الذي أفعله عندما أهم بالكتابة عنك. مر الحديث حتى عن غياب وجهك وقلبك. مؤلم مجرد التفكير في أن جسدك استودعناه الثرى. إلا أنه الإيمان بالقضاء والقدر وربما رحمة من الله الكريم بك عقب سبعة أعوام تصارع الأوجاع بين الفراش والمسجد. يعرفك هنا كل شيء: منابر العلم، دور البحث، نقاشات المفكرين، مجالس الفقهاء والقادة وحتى بيوت البسطاء الذين كانوا يسكبون بين يديك آمالهم وحكاياتهم وشكاواهم لتكون البلسم مستمعا ومعالجا. أورثتنا أكبر الكنوز وأهمها، لم تترك المال، والأملاك بل خلفت الأهم والأبقى. تركت لنا إرثا عظيما من الحب في صدور الناس. المتعلمون يعدون مآثرك وكم مدرسة تركت في ديارهم. المؤرخون يتألمون لوداع مرجع كان ملجئا لكثر يستلهمون من علمه وبصيرته. المعتدلون يفتقدون بصيرته ورأيه في أكثر أيام التشدد ضراوة. أهل الحكمة يسألون عن غيابك ورأيك الذي كانوا يرونه نور الطريق والموجه. أعرف حكايتك يا أبتي التي كانت منهج حياة نقرأه ونسير عليه، عشت يتيما تصارع قسوة الحياة في وادي يبه حتى استودعتك أمك رحمها الله الكُتاب لتعلم القراءة والقرآن. كبر في داخلك المتعلم التواق الذكي فكانت الحياة في القنفذة قبلة جسدك الغض المصبوغ بشقاء الأيام وشمس الساحل وضيق الحال. وداعا يا كل الرجال في رجل، وداعا يا جبل الكرم الشامخ وبحر العلم الذي تعب بحارة البحث فيه، وداعا أنبل من أعرف وأصدق من عرفت وأشرف من اؤتمن.