لازِلنا نُراوح في ذاتِ الفكرة منذ ثلاثين عاما بعد أن كانت تلك الفكرة تتداول في جلسات «لعب الكيرم» وعلى «سفرة» إفطار الجارات صباحا.. أصبحت ذات الفكرة مُتداولة ولكن في جلسات «الواتس آب» وبرامج التواصل الاجتماعي، كيف أننا مجتمع غالبيته يتعاطى مع أحدث الأجهزة وأحدث التقنيات لكن بفكر «الخيمة» وa«بيت الشعر»، نقرأ بعض المواضيع والتعليقات فنشعر بأن من كتبها للتو انتهى من «جمع الحطب»، وكأنها للتو عادت «بالخراف» من الجبل، كيف أن التطور التقني والبرمجيات على اختلافها تُعيدنا للوراء في حين من المفترض أنها تكون تنويرية، تُسرع من عجلة الوعي عند المجتمع، كيف أننا لا زلنا في مرحلة التسنين الفكري، على مدى جيلين متعاقبين، وكيف نخرج من هذا المأزق، في حين أن كل عجلاتنا تدور إلى الخلف وبسرعة شديدة، بل وتدهس كل من يحاول إيقافها ليعيدها للطريق الصحيح الذي من المفترض أن كل الحضارات تسير باتجاهه وهو قمة الهرم. منذ فترة طويلة لم أقرأ لأديب تنسكب روحه على الورق فتشغلني عن المكتوب؛ لأنها طغت حتى على ذاكرته التي لم يبق فيها متسع للوجع، والحنين. إبراهيم شحبي ذاكرته هي «كعب أخيل» راودتني هذه الفكرة وأنا أقرأ «حكايتي مع العلمانية» جاءتني على هيئة امرأة جميلة أخبرتني بأننا لن نرتاح حتى نخلع عنا ذاكرتنا التي أنهكها الوجع والفقد، سألتها: وكيف هذا؟ فاختفت المرأة الجميلة، وبقي صدى صوتها: اخلعوا عنكم ذاكرتكم إن أردتم الحياة؟ وكيف يعيش أحد ما بلا ذاكرة؟ قد يحدث عند أناس غادروا الجبل وحاولوا ارتداء ذاكرة الصحراء فأصبحوا كما المثل الذي يحلو لأمي ترديده «كالغراب الذي حاول تقليد مشية الحمامة». ولأن هذا من غير الممكن حدوثه لأبناء القرى الأنقياء، سنشقى بذاكرتنا إلى أن نفنى. شحبي تنضح ذاكرته بالجمال والعرفان والوجع أيضا، في كتابة سالف الذكر كان فيه الكثير من الإقصاء الذي تعرض له لأسباب مختلفة، أهمها كونه يفكر خارج الصندوق، كان هناك شحبي البسيط الذي ارتدى حذاء نسائيا في محفل بدون أن يكون له أدنى علم، وكان هناك شحبي العظيم الذي اختار أن يعفو عن من رماه بالتهم جزافا، بعد أن أعطى محرضيه درساً في احترام المختلف. لم يقتص شحبي لنفسه وكان بوسعه ذلك، قرأت حكايتي مع العلمانية فوجدتها أنموذجاً لما نعاني منه الآن من عدم تقبل اختلاف الآخر، وبت أفكر لو أن تجربة شحبي في الرد على من صنفه، وتصعيد القضية للمحكمة ومن ثم العفو، لو تم تعميم هذه التجربة؛ لبات من يرمي الناس بالتهم يعرف بأن هناك من سيحاسبه قبل أن يتجرأ، ويقذفهم حتى على المنابر التي من المفترض أنها تنشر المحبة والسلام، لا التفرقة، والكراهية، والطائفية. لو تعامل المجتمع مع (حكاية شحبي مع العلمانية) بنفس فكر شحبي في حينها، قد نكون تجنبنا الكثير مما نعانيه الآن، أقلها في مواقع التواصل من تراشق الاتهامات المعلبة! ولا يمكن أن ننسى الدكتور غازي القصيبي (رحمة الله) في كتاب «حتى لا تكون فتنة» حين رد اتهامات قُذف بها على المنبر وفي خطب جمعة!، كتب رد مفصل وجمعه في كتاب لكل من اتهمه، ولو تلميحاً. لكن حتى هذا التصرف السلمي لم يتبعه أحد للأسف. بينما نجد مخالفيه في ذلك الوقت من قال بعضهم برفض كل فعل حداثي وهو يسجل كلامه هذا في «أشرطة كاسيت»!! ومنهم من قال صراحةً: بأن مبدأ الحوار خطير.. خطير.. خطير! والآن يجلس أمام الشاشة يحاور الملايين من خلفها! ما أريد قوله أن التاريخ يكرر نفسه، فمتى نخلع ذلك الرداء البالي الذي أوغلنا فيه ونلقي به في مكب الماضي، ونمضي قُدماً كأمة واحدة إلى العلم ولا شيء سواه، ولن يحدث هذا إلا بنزعة فكرية مجتمعية على كل ما يعيدنا للخلف نزعة علمية، لن تتحقق إلا بالتوعية الفكرية المكثفة عن طريق برامج موجهه للجيل الحالي، تنظيم معارض للكتب بشكل دوري في مناطق المملكة، منذ بداية العام حتى انتهائه، تطوف الكتب أرجاء بلادنا، وهكذا كل عام لتسهيل وصول المعرفة للناس. يقول القصيبي في «حتى لا تكون فتنة»: وارحمتاه للشباب الذين يقال لهم إن كل من يخالف «ماهم عليه» في صغيرة أو كبيرة هو «فاسق» أو «منافق» أو «كافر» أو «علماني» فيصدقون، دون أن يدركوا أنهم أدوات بريئة في يد تخطيط سياسي ماكر، يستغلهم للوصول إلى الحكم، وعندما يصل إلى الحكم قد تجد له اجتهادات أخرى.