انقضى رمضان بخيره وبركته، تقبل الله من الجميع صيامهم وطاعاتهم وأعاده الله على الأمة الإسلامية وهي في وضع أفضل تستحقه خير أمة أخرجت للناس. رمضان كلمة مستقاة من الرمضاء وهي شدة الحر وتقول العرب رمضت الأرض إذا اشتد حرها، وإن كانت الأغلبية استطاعت السيطرة على هذا الحر وقهره بالمكيفات التي أصبحت جزءا من حياتنا، في نومنا وصحونا وفي منازلنا ومكاتبنا وأسواقنا فاختفت الرمضاء من حياتنا ولله الحمد. علمنا الصوم في أيامه المعدودات أن النفوس تصفو بالاجتهاد في العبادة وقيام الليل وقراءة القرآن وتنعكس هذه العبادات والروحانيات على نفسية الإنسان فيسمو بإنسانيته يسامح ويعفو ويصفح ويخلص نفسه الأمارة بالسوء من الكراهية والحقد والضغينة التي تعمي القلب وتدمر النفس وتجعل من حامل هذه الصفات شخصا غير متصالح مع نفسه ومن باب أولى مع غيره. في كل عام يشتد ظمأ المسلم إلى ظلال هذا الشهر الكريم ليروي عطش الطبيعة الإنسانية إلى رحمة ربها ومغفرته وغيثه المنهمر، فهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، يحس المؤمن فيه بلذة القرب لربه، وأن رحمته يكاد يتلمسها بيده ويحسها بقلبه ووجدانه، يخاطب ربه عز وجل بقلب منيب ويناجيه بنفس مطمئنة وكأنه متجسد بقربه يسمع دعوة الداعي ويجيبه. يعلمنا رمضان معنى الانضباط، وكبح الشهوات فنفطر في وقت واحد محدد لا نتهاون بتأخيره فقد أمرنا بتعجيله، ونتناول سحورنا في ساعة من آخر الليل علينا أن نصحو من أجلها فقد أمرنا بتأخيره لتكون البركة فكان بين سحوره صلى الله عليه وسلم وقيامه لصلاة الفجر قراءة خمسين آية، من هنا نتعلم دقة المواعيد وضرورة احترام الوقت وتقديره، أما كبح الشهوات فرمضان يعلمنا أن نجوع ونعطش والطعام والماء وملذات الحياة التي أحلها الله لنا أمامنا ولا نتأثر أو نضعف. نهرب إلى واحته الوارفة من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، يكبح الصيام شهواتنا وأطماعنا ويهذب من غلواء نفوسنا وابتذالها يعلمنا رمضان أنه شهر العزة والكرامة ففيه أول معركة فاصلة في الإسلام بين الإسلام وأعدائه، ففي غزوة بدر الكبرى المباركة تم إرساء قواعد دولة الإسلام بعزها وتسامحها وكانت معركة بدر في هذا الشهر الكريم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، في هذا الشهر الكريم كان فتح مكة بلد الله العظيم لترتفع راية الإسلام وينهزم الشرك وتدمر الأصنام. ويرسي نبي الرحمة مبدأ التسامح والغفران وقت القدرة والامتلاك فيقول لقومه وسط رجائهم وخوفهم اذهبوا فأنتم الطلقاء دون جز للرؤوس وتقطيع للأطراف وسبي للنساء ونحر للرجال. في رمضان كانت ست غزوات بقيادة رسول الله وصحابته. والمتأمل لحالنا الآن مقارنة بماضينا المشرق والناصع في بياضه يجدنا في وضع يدمي القلب ويصيب النفس باليأس والإحباط، أصبح رمضان اليوم محطة للنوم والكسل والخمول. ننام النهار ونصحو على الإفطار ليلنا سهر ومسلسلات وأسواق وشوارع ندور فيها لا نعطي الطريق حقه ولا نحترم أنظمته وقوانينه. تضيق أخلاقنا وتزداد حركاتنا يقول معلم الأمة (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) نزداد فيه نهما فنأكل ونشرب بتبذير وابتذال، نتفنن في إعداد أطباق الطعام نأكلها بأعيننا حتى نصاب بالتخمة وأمراض المعدة والبطنة لا نؤمن بأن نأكل بقدر حتى لا نشبع ولا نؤمن أن ابن آدم تكفيه لقيمات يقمن أوده وأن صيامنا صحة لقوله عليه الصلاة والسلام (صوموا تصحوا) نتسابق ونتشاحن ونتخاصم على أعتاب بائع الفول والعيش وهو مبذول أمامنا طوال العام، طوابير مبكرة تأخذ دورها في الشمس المحرقة أمام أفران (التميس) تتبادل العوائل المعلومات على رسائل التواصل الاجتماعي عن أفضل مطعم يقدم أطباقه وحلوياته وعصيراته على إفطاره وسحوره، حوادث سيارات زحام لا يطاق سباق محموم ووقوف في الممنوع سباب وشتائم واعتداءات باليد واللسان من أجل صحن فول أو كيس طعمية أو قرص عيش أو كنافة ومهلبية وكل هذا يتم في أفضل ساعات رمضان قبل الإفطار التي يستحب فيها قراءة القرآن والاستغفار والتسبيح ننسى طلب الأجر والحكمة من صوم رمضان الذي يعلمنا معنى الصبر على ملذات الحياة وأهمية التقشف والشعور بالجوع ونفس السيناريو يتكرر على السحور وكأننا خلقنا لنأكل إضافة إلى ما بين الفطور والسحور من تسال ومكسرات وبليلة وترمس وقطعة كنافة وحلويات تصبيرة للسحور. فأين الحكمة من جوع المسلم وعطشه وصيامه. من يرى حال الأسواق وكيف تمتلئ عربات التسوق بتلال المأكولات والمشروبات لظن أن هناك حالة حرب تتطلب تخزين الطعام. رغم أننا نأكل ونشرب طوال العام، فالصوم الصحيح يجلب التقوى للمؤمن ويربيه على العبادة والترويض على المشقة وترك المألوف والابتعاد عن الشهوات بأنواعها بما فيها شهوة الأكل والتبذير وعيش حياة التقشف والإحساس بجوع الآخرين من الفقراء والمعدمين فيرق القلب لهم وتلين المشاعر نحوهم، فالتقوى في كل شيء بما فيها الأكل والشرب هي جماع الخير وهي رأس البر وفي الحديث القدسي الصوم لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي فهل تركنا شيئا لم نفعله. وفوق هذا وذاك تمتلئ صناديق القمامة من بقايا إفطار صائم والذي توسع فيه الناس لدرجة الإسراف والتبذير حتى فقد معناه الحقيقي. اللهم سامحنا فيما مضى وقدرنا على الإحسان في القوادم من هذا الشهر لحسن طاعتك ونتخلص من أخطاء ما سبق لترضى عنا، وكل رمضان وأنتم عيده.