كنت أراقبه عن قرب.. مستغرقا في ما بين يديه.. يقطب جبينه، وما يلبث أن تنطلق أساريره.. يبتسم بأدب، يمرر يده على شعر وجهه في استرخاء مطمئن، وفجأة يهتز رأسه متعجبا، يحرك يده بامتعاض.. يفعل كل ذلك وهو في غياب شبه الذهول، لا يشعر بمن حوله من أهل بيته .. هي تنظر إليه بطرف خفي، لكنها ما تلبث أن تعود إلى هاتفها الذكي، تلاعب حروفه وتمسح على شاشته صعودا وهبوطا.. ومن وقت وآخر تنطلق أصوات غير منتظمة، صرخة إعجاب، ضحكة ساخرة، موسيقى خافتة وصاخبة، فتضطر إلى خفض الصوت باضطراب .. كنت أراقب هذا المشهد، لكن في الواقع، أصبحت جزءا منه، فأنا أيضا منشغل في تقليب شاشة الهاتف أطالع آخر رسائل الأصدقاء واختياراتهم، الدالة على شخصياتهم، من المقاطع السياسية المحزنة ومشاهد العبث من حولنا و«نكات» الكوميديا السوداء التي تسخر من الإنسان المتورط في القتل والتدمير، وإشاعة الكراهية. هذه اللوحة، ليست نادرة ولا غريبة في حياتنا اليوم، فهي تكاد تكون هي الصورة المتكررة في كل بيت أو مجلس أو جلسة أصدقاء أو لقاء الزملاء أو قاعة انتظار في مطار أو في مستشفى. الجميع أصبح قريبا بعيدا، يعيش في عالمه الخاص، بات الإنسان يهرب من جليسه المشتاق لسماع صوته ليسامر البعيد الذي لا يعرفه، ينشغل عن القريب الحبيب بمعابثة من لا يشاطره الحياة ولا يسعد برؤيته ويأنس لوجوده.. يبني صداقات وهمية ويقيم علاقات جافة بطلها صورة حسية يختلط فيها الغموض الخادع بالمتعة الزائفة. أصبحت علاقات الأفراد بأجهزتهم الإلكترونية الذكية، وما تبثه من رسائل وما توفره من معلومات وصور وتعليقات ومسارات، علاقة «خاصة» يمكن أن نسميها «الخلوة الإلكترونية» فلا أحد يريد أن يطلع الآخرين على ما يخزنه هاتفه، تحول الهاتف إلى «كاتم الأسرار» عند الفتيات والفتيان، بل وحتى عند كبار السن من الجنسين، أصبح الجهاز الذكي الصديق الذي يستجيب لصاحبه في أي وقت، لا يمل ولا يتضايق ولا يطلب الحديث والمؤانسة إذا صديقه شعر بالممل، إنه الرفيق الصامت والسمير المصغي، يصمت متى شئت ويثرثر متى أردت .. وهذا الأنيس المطواع من عيوبه انه لا يحب الشركاء فهو يحتوي صاحبه حتى يورثه الانطواء والعزلة، يبعده عن الناس وعن الشعور بالمشاركة.. وإذا استسلم الفرد لهذا الصاحب «الكتوم» فقد يستدرجه إلى ساحة «الإدمان الإلكتروني» التي يحذر منها الخبراء وخاصة على صغار السن، وحينها يفقد إنسانيته ومشاعر المودة الحقة وتتحول المتعة عنده إلى بلادة !! وإذا كانت «الهيئة» تلاحق «الخلوات» غير المشروعة فهل يتصدى التربويون وعلماء الاجتماع لمواجهة هذا النوع من الخلوات التي تبعد الفرد عن إنسانيته وتحوله إلى مشاعر جامدة لا يحس صاحبها بمن حوله ؟.