لم تعد الأبحاث والدراسات الاقتصادية العالمية حكرا على الخبراء والأكاديميين الأمريكان أو الأوروبيين أو اليابانيين والصينيين، فقد استطاع الشباب السعودي المؤهل أكاديميا وعلميا وعمليا اقتحام عالم المنافسة العالمية، واخترقوا جميع الحواجز والجسور لأن يتبوأوا مراكز ومقاعد ومسؤوليات دولية في جامعات عالمية عريقة، يصعب الدراسة فيها، ناهيك عن التدريس بها أو المشاركة بالأبحاث معها. والأمثلة على نماذج السعوديين المتميزين كثيرة، رأينا بعضها في علم الطب، فأشتهر بعض الأطباء السعوديين المبتعثين للدراسة أو التدريب أو العمل في أشهر المستشفيات الجامعية في العالم، وعلى وجه الخصوص في أوروبا أو أمريكا، ولقد رأيت وقابلت وتعالجت عند البعض منهم. أما المتميزون من السعوديين في الجوانب الاقتصادية، وقد لفت انتباهي أحد الأكاديميين الباحثين السعوديين الذي نفخر به وبعمله وبإنجازه العلمي والبحثي في الجوانب الاقتصادية والمالية، وهو الكاتب والباحث الدكتور خالد السويلم عضو وخبير في معهد كينيدي في الولاياتالمتحدة وكبير المستشارين فيه ومدير عام الاستثمار السابق في مؤسسة النقد العربي السعودي، والذي وبكل جراءة وثقة علمية وعملية شارك في إعداد ثلاث دراسات متقدمة عن السياسات والضوابط السيادية (GOVERNANCE) التي يجب على الصناديق السيادية الحكومية اتباعها والالتزام بها إذا أرادت تخفيف الاستقرار المالي والاقتصادي المطلوب. ومن أهمية هذه الدراسات لاقتصاديات بعض الدول في العالم تبني مركز العلوم والعلاقات الدولية ومركز التنمية الاقتصادية بمعهد كيندي (Joint reports)، وهي أكبر مراكز البحوث (Think tanks) في (جامعة هارفارد). وتعتبر هذه الدراسات دليلا استرشاديا للعديد من الدول التي لديها فوائض مالية في ميزانيتها وتبحث عن استثمار هذه الفوائض لتحقيق استقرار مالي على المدى البعيد. ومن أهم توصيات هذه الدراسات هي ضرورة أن يكون جهاز الاستثمارات الخارجية مستقلا في إدارته عن البنك المركزي (مؤسسة النقد) في الدول التي ليس لديها بنك مركزي، وبعيدا عن سيطرة وزارات المالية، وتضمنت الدراسات جزءا عن تقييم للسياسات المالية والاستثمارات الخارجية السعودية خلال السنوات الماضية، وهي (دراسات محايدة ليس لها أية مصلحة سوى المساعدة في تقويم مسار بعض السياسات المالية لصالح بعض الدول)، وانتهت الدراسة إلى توصيات، منها ضرورة إنشاء جهاز مستقل للاستثمارات السعودية في هيئة صندوق ادخار سيادي (Saving fund)، وإنشاء صندوق للاستقرار المالي (income stabilization fund)، وذلك بهدف وضع سياسة مالية ثابتة تهدف إلى ضمان دخل دائم للدولة منفصل عن إيرادات البترول (Permanent Income). وأوضحت الدراسة الخاصة بالسياسات المالية بالسعودية أن الاحتياطيات الحالية لدى المملكة ليست كافية لتغطية متطلبات الإنفاق الحكومي خلال السنوات القادمة لو استمر سعر البترول منخفضا إلى الحدود التي وصل لها هذا العام والعام الماضي. وترى الدراسة أننا أضعنا فرصا ثمينة استثمارية خلال السنوات العشر الماضية عندما وصل فيها إيراد الدولة من البترول إلى أقصى مستوياته. وتعتقد الدراسة أنه كان يمكن أن يصل حجم الاحتياطيات والاستثمارات الخارجية السعودية إلى أكثر من (1.8) ترليون دولار عوضا عن ما هو الآن حوالي (750) مليارا لو أننا قمنا بالإصلاحات المقترحة في الدراسة بضبط السياسة المالية وإنشاء صندوق سيادي مستقل لاستثمار فوائض الدخل في مشاريع ذات عوائد أفضل، أي كان بالإمكان تحقيق فائض قدره ترليون دولار إضافية للاحتياطات الحالية، بدون أن يتأثر الادخار في المشاريع التنموية. وهي توصية جديرة بالدراسة، ولا سيما أنها مقدمة من مجموعة من كبار الخبراء والمختصين في جامعة هارفارد وتتفق مع دراسات وتوصيات سابقة متعددة لصندوق النقد الدولي خلال الزيارات السنوية التي يقوم بها الصندوق للمسؤولين في وزارة المالية، وذلك بناء على المادة الرابعة من نظام صندوق النقد الدولي، بما يسمى (IMF Article 4 Consultation)، وكان من أهم توصيات صندوق النقد الدولي ضرورة رفع مستوى التخطيط للسياسات المالية للمملكة. وأن يكون التخطيط للسياسات المالية والميزانية العامة للدولة مبنيا على رؤية مستقبلية وضوابط مالية محسوبة على المدى المتوسط والبعيد، وليس فقط على المدى القصير، وذلك لفصل متطلبات الإنفاق الحكومي عن التقلبات في دخل البترول. وقد سبق مراكز البحوث وصندوق النقد الدولي دراسة أعدتها الغرفة التجارية الصناعية بالرياض، وتم عرضها في أحد المنتديات الافتصادية التابعة لغرفة الرياض (منتدى الرياض الاقتصادي)، وقد شاركت شخصيا في مناقشة ورقة العمل التي تطالب بإنشاء صناديق سيادية لاستثمار الفوائض بديلا عن سندات الحكومة الأمريكية. وأجزم بأن كل مرحلة اقتصادية لها ظروفها، وقد يكون القرار اليوم مهيأ أكثر لإنشاء الصناديق السيادية لدعم استقرار الدخل والاستمرار في المشاريع التنموية بصرف النظر عن تقلبات سعر البترول.