إن الفقر ليس فقر المال، لكنه فقر الأفكار والإبداع، وإن الغنى هو غنى الحقوق والواجبات، لقد أصبح جلياً أن الحلول لا تكون جزئية حتى عندما تكون مرحلية. يجب النأي بالفئات المحتاجة عن الحلول المالية دون حلولٍ اجتماعية، كما يجب النأي بتلك الفئات عن الحلول الاجتماعية دون حلول مالية واقتصادية متزامنة وإلا سنسهم في توسيع رقعة الفقر والبطالة ونتسبب بفجوة كبيرة بين من يملكون ومن لا يملكون. إن قرار مجلس الوزراء الأسبوع الماضي والذي قضى بفصل الصناديق الحكومية عن وزراة المالية، يعد فتحا مهما في مسيرة التنمية والتنظيم والإدارة ويمثل نقلة نوعية ستنعكس خلال السنوات القادمة على مفاصل العمل التنموي الاقتصادي- الاجتماعي، على اعتبار أن هذه الخطوة ستتيح لوزارة المالية التفرغ لعملها الحقيقي والمتمثل في الميزانية والواردات والمصروفات، كوزارة معنية بالخزانة، ومن ناحية أخرى يتم تحرير الصناديق فتقوم بدورها التنموي الطبيعي والمناط بها حسب مجالاتها واختصاصاتها بعيداً عن رؤية مالية ضيقة وليست تنموية بسبب ارتباطها بوزارة المالية. لا يمكن أن تبقى التنمية أسيرة لمفهوم العمل الخيري، رغم أهمية العمل الخيري والدور الذي لعبه في مساعدة المحتاجين والفقراء والعاطلين والأيتام والعجزة خاصة أن العمل الخيري عادة يتوجه للأسرة في الغالب وليس للفرد. هناك فرق كبير بين العمل الخيري والعمل التنموي، فالأول يتعامل وقتياً مع احتياجات الإنسان الأساسية من فئات المحتاجين فيبقي المستفيدين ضمن اقتصادات الفقر ولا يعطي أهمية للاستدامة التي تضمن تحويل هؤلاء المحتاجين إلى منتجين مع حفظ كرامتهم باستقلالهم المالي ولا يدخلهم ضمن دورة الاقتصاد العام للمجتمع والدولة. وعلى النقيض من هذه المدرسة، تأتي المدرسة التنموية في التعامل مع الفقراء والشرائح المحتاجة من العجزة والأيتام فتساعدهم بآليات مستدامة تتدرج بهم من مرحلة اقتصادية إلى مرحلة أخرى ومن مستوى اجتماعي إلى آخر، هذه المدرسة تؤمن بأن الفقر ليس فقر المال، لكنه فقر التفكير والوعي النفسي والاجتماعي الاقتصادي. الصناديق الحكومية في مجملها لها فلسفة مختلفة عن المدرستين الخيرية والتنموية، وتختط لنفسها مسارا مواربا أحيانا يجمع أو يخلط بين المدرسة الخيرية والمدرسة التنموية وأحيانا يبدو مستقلا عن المدرستين، حيث إنها تبدو شكليا تجمع أو تخلط ما بين المدرستين في حدهما الأدنى، فهي تمنح قروضا حسنة للمستفيدين دون فوائد ولمدد إما طويلة أو متوسطة، لكنها تقدم حلولا مالية فقط دون مراعاة للتأهيل والتمكين، فضلا عن أن انضواء تلك البنوك تحت عباءة وزارة المالية لفترة طويلة وهو ربما ما حال دون إحداث قصص نجاح تنفرد بها بعض تلك البنوك عن البعض الآخر، فلم تكن خيرية تلك الصناديق لكنها لم تستطع أن تقدم نموذجا تنمويا بالمعنى الدقيق للكلمة. والدليل هو أن نسبة لا بأس بها من المقترضين من تلك الصناديق، هم يقترضون للحصول على السيولة النقدية فقط وليس للاستثمار كما تظن بعض الصناديق. إن سلخ الصناديق عن وزارة المالية وفك ارتباطها بها، وربط كل منها بالوزارة المعنية وذات الاختصاص هو بلا شك نقطة تحول إيجابية في مسيرة التنمية والعمل التنموي، لكن الخوف كل الخوف من أن نترحم على وزارة المالية، إذا ما ذابت تلك الصناديق في روتين بعض الوزارات وإجراءاتها المعقدة وبيروقراطيتها خاصة مع وزارة الخدمة المدنية ووزارة الشؤون الاجتماعية، حيث الهوة السحيقة بين الواقع والمأمول. فبين النجاح والفشل خيط رفيع. إن أصعب الاختبارات بدون أدنى شك هو الاختبار القائم على التوأمة الجديدة بين وزارة الشؤون الاجتماعية وصندوق الادخار والتسليف، أكثر من أي توأمة أخرى والسبب هو أن أكبر الشرائح والفئات المحتاجة في المجتمع وأكثرها تنوعا هي تلك الممتدة على تضاريس وزارة الشؤون الاجتماعية وصندوق الادخار والتسليف مقارنة بما سواهما من الوزارات والصناديق، ومن هنا يأتي التحدي لهذه الوزارة وهذا الصندوق. إن وزارة الشؤون الاجتماعية وصندوق الادخار والتسليف إذا ما أحسنا إدارة الموارد البشرية للفئات المستهدفة والموارد المالية المتاحة فإننا سنكون حتما أمام توأمة نموذجية خارقة تتجاوز كل الصعوبات الاقتصادية والتحديات الاجتماعية ستقلب المعادلة وتدفع بقاع المجتمع إلى الطبقة الوسطى عن طريق التمكين الاقتصادي - الاجتماعي للقادرين على العمل من المتقاعدين وذوي الاحتياجات الخاصة والأرامل والأيتام والمطلقات والعجزة وإطفال الشوارع وأن تجعل من المخاطر مكاسب فتصنع قصص النجاح المذهلة. إن العصا السحرية لنجاح التنمية وكلمة السر لها هي «التمكين» فلا مجال للحلول الجزئية والترقيعية بعد الآن، لأننا ببساطة لا نستطيع أن نمنح الفقراء مساعدة مالية للتعليم، من دون أن يكون لهم ولذويهم إمكانية العلاج ولا نستطيع أن نعول على رأس المال للنهوض بالمحتاجين بطريقة مستدامة، دون تأهيلهم وتذليل الصعوبات اللوجستية والثقافية المجتمعية أمامهم. لابد من شمولية التعاطي مع تلك الفئات كي لا تبدو برامج التنمية كمن يهدي باقات الورود لمن لا يجد ما يشتري به حذاء، أو كمن ينتظر أن يحتفل الناس بالعيد بثوب جديد وأقدام حافية. خلاصة القول لا مجال بعد اليوم لبرامج الترقيع في التنمية حيث يجب أن تشمل برامج التنمية حلولا شاملة لحياتهم، فليس الحل الاجتماعي يغني عن الحلول الاقتصادية ولا الحلول الاقتصادية والمالية تغني عن الحلول الاجتماعية، لذلك يجب التعامل مع الفئات المستهدفة على قاعدة التمكين من الحقوق والواجبات وحفظ الكرامة والمساواة بكافة شرائح المجتمع للانخراط بدورة الاقتصاد في المجتمع من خلال التوسع بالبرامج التمويلية النابعة من حاجة السوق والقائمة على دراسات الجدوى بما في ذلك ثقافة العمل السائدة في المجتمع، كما يجب التفكير الجدي بتدشين ثقافة حسابات الادخار لكل فرد من الفئات المستهدفة، ليشعر هؤلاء بالقيمة الذاتية وتأمين الضمانة المالية لهم، فضلا عن رفع إحساسهم بالانتماء للوطن للمجتمع وليس العيش على هامش المجتمع وهامش الاقتصاد، كما يجب الاستفادة القصوى من بعض الفئات مثل المتقاعدين في إدارة وتشغيل الجمعيات بأساليب حديثة تنسجم مع مفهوم التمكين وليس الإعاشة والمساعدة.