هذه قصة رجل يعيش في ركن الشارع الذي أسلكه للوصول إلى مكان عملي، حيث ينحني الشارع ثم يتعرج بين البيوت.. أُسرع إلى مقهاه المتواضع كعصفور يسرع إلى بقعة ماء صغيرة فوق الساحة.. حالما أغادر منزلي صوب العمل أخطف منه فنجان قهوة " معتبرا" ، ومع الأيام صار فنجان قهوته يرافقني إلى عملي كنسيم خلف عنقي.. يتهافت على مقهاه المهندس والمحامي والطبيب والعامل البسيط، فلقهوته رواج أكثر من مواد التجميل.. القهوة من أجمل أناقات العيش.. ترف صغير يتحول مع الوقت إلى ضرورة من ضرورات الحياة، ومن هنا أصبح هذا الرجل العجوز الخفيف الظل مثل الستار الأبيض الذي يروح ويأتي في مكانه بوقع الريح الخفيف سنة مكررة في حياتي الصباحية، أحدد بعد تناول قدح قهوته برنامجي اليومي.. يوزع القهوة كطفل يوزع القبلات على يمين الهواء وعلى يسار الهواء بتكرار محبب وباكتراث المحترفين القدامى.. بلغني يوما وكأنه ينطق بكلام جديد كأنه كان يخفي سرا ويبحث عن توقيت مناسب لإفشائه.. قال لي بابتسامته التي هي أرق من ابتسامة رضيع نائم .. يبدو أنني سأفتح معهدا للصبر جوار هذا المقهى.. لقد أصبت بالسرطان يا رفيقي.. أبلغتني النتيجة طبيبة خاصمتها الوسامة.. كان يضحك.. جرت لحظة صمت كاملة بيننا.. لحظة صمت تشبه صمت الشمعة.. لحظة تشبه تمرير رسالة بريد من تحت الباب، استكمل حديثه بطريقة عادية عن خطته لتحديث المقهى، كان يتكلم بجدية، بل وبعد بضع جمل راح يتحدث عن خططه لبعد عامين، أعجبت بتفاؤله وقوته جدا، كان يتحدث وكأنه يعيش أبدا، وكنت أتأمله بحزن عام، أنا الذي لست متأكدا من أنني سأبقى حيا حتى الشهر القادم، كان يسخر من المرض، أعجبني ذلك العظيم من العدم، فكثير ممن عرفتهم في مسيرتي المهنية والتي قضيتها بين الأروقة البيضاء في المستشفيات ما أن يصيبهم مرض مزمن حتى يبدو في الاستعداد الأسطوري للموت.. يعيشون جفافا حياتيا كأنهم ابتلعوا ترابا مع استقبالهم خبر الإصابة.. يسجنون الزمان داخل أماكنهم، لا قول.. لا فعل.. لا حركة؛ كأنهم يتفرجون على لوحة لا وجود لها لم يرسمها أحد معلقة على جدار غير موجود.. كان ذلك العجوز ثابتا كقاعدة رخامية لنافورة تغمر الحياة بالعطاء، على الرغم من أن أقسى جرائم السرطان تشويه مشاعر المريض.. نعم يغير المشاعر.. يخربها.. يخل بها، يعبث بها على هواه، يحولها إلى ثور في متحف خزف.. يحول المخدة تحت الرأس إلى حذاء به حصى.. يجعله نخلة مكسورة من منتصف الجزع ويصبح ملمس الحياة ملمس الصبار بعد أن كان ملمس المخمل.. واستمر العجوز يعيش بحواسه الخمس.. ظل التفاؤل الصفة الأكثر استدامة وتعاقبا في كل تصرفاته.. ظل يحب ويمنح.. ظل لطيفا وبسيطا وأليفا وحقيقيا وحتى آخر لحظة رغم أن الألم ينتشر بين أسنانه كان صابرا صبرا يتجلى بأبعاد أسطورية في تعامله، وزادت زيارتي للمقهى، واستمر لطيفا معي ومع الآخرين ممن راحوا يزورونه كأنهم اكتشفوا فجأة مثلي متعة الاهتمام بشخص يحتضر مبتسما.. في أحد الأيام مررت بالمقهى لأجد زوجته بأنفها الرقيق مثل الذي فقدته أغلب التماثيل الإغريقية.. كانت عيناها تضمان لونا حائرا.. كانت طبقة من الدموع قد ملأت عينيها الزرقاوين ووصلت إلى حافتهما، حيث توقفت هناك، مرت بإصبعها الصغير ومسحتها من على وجهها.. آلمتني عيناي لحظة رأيت السماء.. لقد نسيت كم يمكن للسماء أن تكون زرقاء فجأة، أحسست بالدموع تصعد إلى حلقي وكدت اختنق من محاولتي ألا أبكي، فسعلت وبكيت في أن واحد، قالت لي: أرجوك توقف عن الحزن، ثم أكملت كأنها تعزيني: لقد قال لي يوم رحيله.. لا تبكي فالبكاء ليس حلا عمليا. علينا دائما أن نفكر في روعة الحياة مع كل انتصار مؤقت على الموت.. بالأمس مررت قرب المقهى.. لم أدر رأسي لأنظر إلى الخلف.. لم يكن عندي الشجاعة.. إنما أكملت الطريق.. شعرت بأن عتمة الطريق تزداد قسوة.. بدأت تمطر في الخارج، تذكرت أن لا مظلة معي ولا ملابس دافئة ولا قهوة ذات نكهة مخلوطة بحب الحياة!!.