يقول أحد الأصدقاء إنه ومنذ كان دخله خمسة آلاف ريال إلى أن أصبح دخله الشهري 15 ألف ريال لم يدخر ريالا واحدا. أظن أن الادخار هو ثقافة شعوب أحيانا أكثر منها سلوكيات أفراد دائما. فهذا الصديق لو قفز دخله إلى ثلاثة أضعاف لن يدخر في ظني، السبب أن ثقافة الادخار والتوفير بيننا شبه معدومة لأسباب مختلفة، لكن التنشئة التي لعبت دورا في غياب ثقافة الادخار من قاموس الغالبية من الناس، هي ذات التنشئة الكفيلة باستزراع ثقافة الادخار والتوفير. أقترح من أجل ذلك تشريعا من مجلس الشورى، تتبنى بموجبه الحكومة فتح حساب ادخار وتوفير لكل مواطن منذ ولادته(ا) على أن تودع شهريا مبلغا ثابتا، حتى يبدأ المواطن(ة) بالوقوف ماليا على قدميه حيث يبدأ العمل. على أن يستمر هذا الحساب والإيداع به لبعض فئات المجتمع مثل الأرامل والمحتاجين وذوي الاحتياجات الخاصة والمصابين إصابات جوهرية. كما أنني أرى أن هذا الحساب يمكن أن يصب في راتب التقاعد لبعض الفئات التي تعاني انخفاضا حادا في دخلها بعد سن التقاعد، والتي تتم دراسة حالتها وظروفها المادية بعد الخدمة، على ألا يكون ذلك بديلا عن دخل التقاعد. إن الطفولة هي السن المثالي لاستزراع ثقافة التوفير والادخار، وهي الكفيلة بالحد من ظواهر الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي في مرحلة الشباب. لماذا؟ إن أفضل وقت لقطف ثمرة الادخار والتوفير هو سن الشباب، حيث تكون الحاجة له في أوجها وحيث تكثر الاحتياجات للصرف على التعليم والزواج والسكن ومتطلبات الحياة، وهذا يعني أن يكون حساب الادخار والتوفير قد بدأ منذ الطفولة، وليس من مرحلة الشباب. فلا يمكن ولا يستقيم أن يبدأ الادخار والتوفير عندما يبدأ معترك متطلبات الحياة. إن حساب الإدخار والتوفير لكل مواطن سيسهم بالإضافة إلى الحلول المالية لمرحلة الشباب، سيسهم بإمكانية حصول المواطن والمواطنة على قرض يعادل ثلاث مرات المبلغ المدخر في ذلك الحساب، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتوفر لأحد دون دخل ثابت للمقترض أو رهن ممتلكات يتعذر توفرها للغالبية الساحقة. كما أن حساب الادخار والتوفير لكل مواطن منذ الولادة سيسهم في ترشيد الاستهلاك. فكما هو معلوم أننا من ثقافة مجتمع استهلاكي، لم يألف التصنيع ولم يتعود التوفير والادخار. وأظن أن أفضل وسيلة لترشيد ثقافة الاستهلاك هي استزراع ثقافة التوفير والادخار منذ سن الطفولة حيث يتشكل الإنسان وسلوكه. أظن أن واحدة من مشكلات الصناديق الحكومية التي تقدم قروضا شخصية أو منتجات تمويلية للاستثمار في بعض المهن والمشروعات الصغيرة أو المتوسطة أنها تأتي متأخرة عن وقتها.. فما قيمة التمويل إذا جاء بعد فوات الأوان؟ وما قيمة القرض إن جاء بعدما تفتك متطلبات الحياة بهذا الشاب، ما يضطره في حالات كثيرة إلى أن يدخل في مشروع استثماري وهمي، فقط ليحصل على المال ويسد به التزاماته الاجتماعية والأسرية، فلا يستطيع أن يمضي بمشروعه الاستثماري الذي أخذ من أجله، فالحاجة الآنية أكثر إلحاحا من الاستثمار في «المستقبل» حينها. إن أحد أنجح بنوك الفقر التي يعمل عليها برنامج الخليج العربي أجفند بمبادرة من الأمير طلال بن عبدالعزيز ، هو بنك الأمل في اليمن، هذا البنك شرع منذ فترة بفتح حساب الادخار لآلاف الأطفال والكبار، وهذا الادخار نجح نجاحا باهرا في إنقاذ المقترضين من الأزمات التي تواجه مشروعاتهم الصغيرة بعدم المساس بها عندما يتعرضون لهزة مالية شخصية أو أسرية، فهم يلجأون لحساب الادخار ولا يوقفوا مشاريعهم أبدا. كما أن حسابات الادخار منحت الفقراء فرصة لأخذ قرض ضعف المبلغ المدخر في حساباتهم. نحن بالفعل أمام تجربة مدعاة للتأمل والدراسة والاستفادة منها في اليمن، وهذا النموذج يدخل الفقراء في النظام المالي ويدمجهم به ولا يبقيهم خارج النظام المالي والاقتصادي. نحن في المملكة نستطيع أن نحول عمل الجمعيات الخيرية إلى عمل مختلف لو نجحنا في تبني إطلاق حساب التوفير والادخار وإصدار التشريعات اللازمة التي تتيحه لكل مواطن، وبعد دراستها من كل الجوانب، تناط هذه الحسابات بجهة حكومية استثمارية لكي تديره لصالح كل مواطن، ليحقق مبتغاه بتوفير رأس المال والعائدات الربحية لأصحابه في الوقت المناسب ولا يستبعد الاستثمار في الأسهم والسندات، ويكون هذا الحساب مفتوحا على هبات الأهل لأبنائهم ومصروفاتهم. إن هذا الحساب البنكي للتوفير والادخار لو تحقق سيكون رقما مهما ومن يدري فقد يكون بديلا أنجح عن العديد من البرامج والمشروعات التي تقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية والصناديق الحكومية والخدمات التعليمية والصحية الحكومية.