تعتبر تجربة الفوتوغرافي الأمريكي إدوارد ستور (1937) مدهشة، نظرا لمسارها الفني المتقاطع بين الصور التعبيرية لبدايته في شوارع شيكاغو المعتمة خلال فترة الستينيات، وبين مرحلة المناظر الطبيعية المتخمة بألوان المروج الأمريكية، حيث نجده مشغولا بمشاعر متعاطفة تجاه الطبيعة، ثم تطورت في سنة 2005 إلى تجربة تجمع بين الصورة والرسم. هذا الاختلاف الكبير في رؤية العالم هو في حد ذاته رحلة حياة وفن، فمن التصوير الفوتوغرافي للشوارع، الذي تجسد في صور عن حياة وحشية وعنيفة سادت الشوارع الخلفية لمدينة شيكاغو إلى المرحلة الطبيعية التزويقية المفعمة بالعاطفة نحو جمالها والخوف من زوالها. وبذلك يصبح تواصله وتقاربه وتفاعله مع العناصر الطبيعية، كالغيوم والبحيرات والبراري المحترقة أو المتوارية تحت الجليد، احتفالا بعناصر تكوين العالم، ونوعا من التحرر والخلاص من الغابات الأسمنتية لمدينته ووحشيتها المتفاقمة. كانت خطوة حكيمة لتطويب جمال العالم الحقيقي. فانتقل في عمله الفني من صور بالأبيض والأسود التي غلب عليها الاغتراب والحزن إلى صور قشيبة بالألوان الزاهية، ومشرقة بالفرح والامتنان. من خلال أعمال عديدة ومكثفة في الميدان، تمكن إدوارد ستور من تطوير أسلوبه الشخصي، وربما يرجع ذلك إلى الدعم الذي تلقاه من معلمه هاري كلهان، الذي كان حاسما في اختياراته واختباراته الفنية. تعلم منه كيفية استغلال القوة البصرية للشكل وأيضا كيفية جعل الصورة الفوتوغرافية ليس نافذة على العالم فقط، ولكن تحويلها إلى صيغة بصرية نموذجية. هناك تأثيرات أخرى عرفتها أعماله الفوتوغرافية في مختلف مراحلها، من أوجين سميث وكارتيي بروسون وروبير فرانك. ولا ننس تجربة إدوارد في التدريس التي دامت 24 عاما بجامعة كانساس التي عمقت تجربته معرفيا وتقنيا. كما ذكرنا، فإن تجربته الفنية بالأبيض والأسود التي أنجزها بين شوارع شيكاغو قدمته كأبرز مصور أفرزته مدرسة شيكاغو الفوتوغرافية. لكن الصور التي جاءت فيما بعد وأطلق عليها: صور سلسلة منطقة سالينا في الكانساس قدمت إدوارد آخر أكثر رونقا وعاطفة وجاذبية، بعد ذلك تلتها مرحلة مروج كونزا القريبة من مانهاتن التي ابتدأت عام 1990 ولم تتوقف إطلاقا. فقد وجد في هذا المنجم الطبيعي ما يبحث عنه من مواضيع ومشاهد وزوايا تمكنه من بلورة مشروعه التقني المذهل. لم يعد إدوارد يكتفي بألوان الطبيعة وضوئها، بل بدأ يتدخل في الصور بتلوينات يدوية تتم على الشكل التالي: يبدأ بتضخيم الصورة بالأبيض والأسود، ثم يقوم بتلوينها بعناية يدويا مستعملا أقلاما ملونة. والنتيجة هي مزيج من رؤية شخصية، ذات طابع حلمي في كثير من الأحيان. يرى بعض الدراسين أن إدوارد الشوارع هو نفسه إدوارد الطبيعة؛ لأنه واصل استخدام لغته الرمزية نفسها، التي بدأها في شوارع شيكاغو. وواصل حساسيته نفسها المتعاطفة مع الموضوعات. طبعا لا يكتفي إدوارد بهذه الطريقة التقنية المكتسبة، بل يسعى إلى توظيف حدسه تجاه ما يلتقطه، واعيا بضرورة تواجده في المكان المناسب واللحظة المناسبة شاحذا طاقته البصرية وشاحنا طاقته الإبداعية. هذه البراءة أمام الناس والمشاهد يعتقد إدوارد أنه فقدها منذ ذلك الزمن حينما كانت الفوتوغرافيا تمر من خلال نماذج مقنعة في فترة الستينيات. كانت بالفعل صورة متأثرة بالمناخ السائد في شيكاغو كانت الصور قوية وأصيلة واستثنائية. كان الشكل والمحتوى يتلاحمان لتشكيل انفعالاته الخاصة تجاه الموضوعات البصرية. كان إدوارد في تلك الفترة جوالا دائما بين شوارع وأزقة مدينة شيكاغو عامة ومدينتها القديمة، خصوصا حيث المنازل الفقيرة والاختلاط العرقي، وحيث العتمة واللصوص والجريمة. كان يستأجر بيتا حقيرا للتسلل إلى عالم جديد مغر للفنان، ولكن أيضا يمكن أن تكون نتائجه وخيمة. خصوصا بالنسبة لمصور لا يملك سلاحا غير آلته الفوتوغرافية. عكف إدوارد في هذه الفضاءات على نقل فراغ النهارات وعنف الليل، كاشفا عن اغتراب وعزلة فئة اجتماعية تعاني الانفصال الكلي عن الواقع. لكن ما يميز نظرة إدوار الفنية أنها كانت متعاطفة تعاطفا عميقا، فما أن نلاحظ صوره حتى نكتشف أنه لم يستطع إخفاء مشاعره وانفعالاته تجاه هذه الكائنات المهمشة. ويظهر ذلك جليا في درجة الضوء وكثافة البياض وإيقاع الظل التي تتشكل منها الصور. هذه الصور المليئة بالبياض الذي يحيل على فراغ الحياة، ثم يأتي السواد لاطما توقعاتنا محيلا على قسوة الواقع. هذا التضارب منح صورة دينامية هائلة تمزج بين حركة الموضوع وإيقاع الضوء. ويمكن أيضا الوقوف في هذا السياق على طريقة تأطيره للمشاهد التي تبدو غريبة ومثيرة تذكرنا بالسينما التعبيرية الألمانية. يهيمن أيضا تناقض والتباس، لكنه مطلوب لمن يشاهد صورا مفتوحة على احتمالات متعددة؛ لأن المشاهد يحتاج إلى استكمال الفضاءات الشاغرة وملاحقة الموضوعات المنفلتة من الإطارات القريبة أو البعيدة. تبدو تشكيلاته البصرية غير متناسقة تقدم أشياء معزولة وغير مألوفة عن عالم خارج قدرة الاستيعاب. وأمام تعقيدات وغرابة العالم ندرك أن إدوارد حاول أن يتحرر من غياهب اليباب المهيمن والانعتاق من حصار الانغلاق القاسي بفضاءات شيكاغو. لم يكن أمامه غير الهروب إلى الطبيعة منغمسا في عوالمها الجميلة ومساهما في زيادة ألوانها البهيجة بحب وتعاطف. في أحضان الطبيعة بعشبها وسحبها وثلوجها وأنهارها حاول أن لا يكرر تجارب تعبيرية سابقة، بل نزع إلى تجريد فريد من نوعه يعمل فيه بيديه وخياله، جاعلا من الصورة الطبيعية بهجة طفولية جديدة تسودها الصباغة العفوية واللعب بالألوان والسمو بالخيال لخلق عالم عجائبي جميل بدلا من عالم الواقع الصعب.