أشعلت جدتي فور خروجه سراجا بدائيا بذبيلة، غمست في إناء ممتلئ قازا، ورطبت وجع أمي ومسحت دموعها، حملت عصاها وقامت تقيس بها الأرض عرضا وطولا، وحينما استقر لها قرار خرج لنا من بين خشب البيت، ثعبان أسود انتبهنا له من طقطقة الخشب لكبره، فمدت عصاها وسحبته وقتلته بضربه بها على رأسه، وحينما انتهت من قتله وتعليقه في شجرة الطلح قريبة من باب البيت، قالت لنا هذا الثعبان حارس وقد انتهى أجله، وكلفتني مع شقيقي جلب مسحاة الحرث، وحرضتنا على حفر أرضية بيتنا الصغير، ففعلنا مع أمي ما تكلفنا به جدتي بكل رضى وسعادة، تناوبنا على الحفر وهي ترتعش فوق رأس قعادة، صنعت من سعف النخيل وأشجار الطلح، ولما سمعت صوتا مختلفا للحفر، أيقنت أن رأس المسحاة وقع على شيء قاس، نهضت من مكان نومها وأمرتنا بالتوقف، كانت تمد يدا ظاهرة عروقها لتجلي التراب عن وجه تنكة، وأمسكت أمي عن زغرودة محبوسة في داخلها، تخشى أن يطيرها ليل بهيم فيسمع بها الناس، انتزعت جدتي تنكة ممتلئة بالريالات العربي، وكلفت أمي بصبها في صحن خشبي كبير، جعلته للمناسبات الكبيرة وتعيره للجيران في مناسباتهم أيضا، ومدت عصاه من جديد لتكلفنا بالحفر في مكان آخر، وحينما ظهرت لنا تنكة جديدة ممتلئة بالريالات الفرنسية، لم تستطع أن تسيطر على فرحة ونشوة عمت داخل البيت الصغير، نظرت إلى نظرة ذات معنى ولوحت لي بعصاها. فورا، أدركت أنها رسمت لي أولى خطوات الرجولة، فكان علي أن أخرج فورا في هذا الليل البيهم، والبحث عن والدي واعتقال سلاحه لئلا يفرط به، ويبيعه على صديقه لشراء بيت الصانع، وكانت العمليات الجراحية البدائية في مستشفى أجياد في مكة قد أنهكته، وسببت له كثيرا من الألم الجسدية فوق ما يعاني من هموم، فنام تحت شجرة الطلح وسلاحه إلى جواره، وثعبان أسود كبير يتدلى فوق رأسه من بين فروعها. * فصل من رواية (منابت العشق) تحت الطبع.