بين ركام الزوارق القديمة ودهاليز سفن السفر الجاثمة خلف سوق السمك جنوبجدة، يتقاسم ثلاثة من كبار السن لقمة العيش، من خلال مثابرتهم في مهنة صيانة قوارب صيد السمك، تقاسم الثلاثي رحيق العمر والتعب، ولم يمنعهم تقدم السن من العمل في المهنة الشاقة والنادرة في هذه الايام، وتبدو على وجوهم ملامح الزمن لكن قلوبهم شابة وفتية، مؤمنة بأن الصنعة تحتاج إلى إرادة وتحد وقوة وقبل ذلك عون من الله سبحانه وتعالى. مهنة القلافة مطرقة ومسمار هندي وقطن وثيق كل ما يحتاجه عبدالله مهدي، ومحمد صديقي و عبده فرج في مهنة القلافة أو «صيانة القوارب». وفي غمرة العمل وصوت المطرقة حاورت «عكاظ الاسبوعية» الأصدقاء الثلاثة، ويتحدث العم عبدالله أنه قدم إلى المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز حينما كان صغيرا وعمل مع والده في النوارية بمنطقة البلد في محيط الميناء. وأضاف، كنت أحمل لوالدي بعض أدوات النجارة التي كان يستخدمها في صيانة قوارب الصيد، ظل يعلمني لتوريثي المهنة، حيث كانت العوائل ترفض في تلك الفترة أن يعمل أبناؤهم في غير مهنهم وكانت العائلات قديما مرتبطة ببعض المهن، وكأنها حكر عليهم، نظرا لقلة المال، وعدم وجود عمالة وقتذاك. 20 ريالاً صديقه وأخوه في المهنة محمد صديقي أوضح أن بداية ممارسته لمهنة صيانة القوارب كانت بعد وفاة والده مباشرة، ووقع وقتها في اختبار صعب إذ كان يعتبر المحك الحقيقي -بحسب قوله- لمعرفة قدرته على صيانة القوارب.. التجربة الأولى عندما قدمت إحدى السفن من خارج المملكة وتعطلت في ميناء جدة، وطلب منه أحد المسؤولين في ذلك الوقت إجراء صيانة للقارب المتعطل (جمعت بعض أصحاب المهنة وأنهينا الصيانة في أربعة أيام مقابل عشرين ريالا. وكان ذلك بداية انطلاقتي نحو المهنة الى يومنا هذا). حسرة على الشباب الصديق الثالث عبده فرج يقول إن طريقة الصيانة تعتمد على النجارة عموما، لافتا إلى أنهم يضعون الألواح بطريقة التصفيف وتثبت بمسمار هندي عريض في السمك وصغير في الطول، ثم تجري لها عملية تسمى (القلفطة) بوضع القطن بين الألواح لمنع دخول الماء إلى القارب، وأعرب فرج عن حزنه لعزوف الشباب عن هذه الحرفة الهامة التي تكسب العامل أرباحا كبيرة. يعود مهدي ليأخذ طرف الحديث ويواصل: ازدهرت صناعة السفن والقوارب في جدة منذ القدم، وعلى الرغم من تطور البواخر والمراكب البحرية واستخدام التكنولوجيا في تجهيزها، إلا أن ثمة من لا يزال يتمسك بصناعة الزوارق الخشبية التي تحتاج لعناية واهتمام، فمهنة القلاف وهي الكلمة الخليجية التي تطلق على من يصنع السفن بطريقة يدوية يهددها الانقراض ولا يتمسك بها غير أشخاص في جدة يعدون على أصابع اليد الواحدة تجدهم في حي الهنداوية وقرب الميناء، بمطارقهم وأزاميلهم، يركبون الأخشاب ويرممون الثقوب بالقطن، ويزاولون المهنة المتعبة على الرغم من بلوغهم من الكبر عتيا، وهؤلاء يعتبرون ما يفعلونه تعبا ممزوجا بمتعة، غير عابئين ببدائية الأدوات.