«واجبنا الجميل هو تخيل أن هنالك متاهة وخيطا» خورخي لويس بورخيس «الخيط والمتاهة» خرج فيليثيتو ياناكيه، صاحب شركة ناريهوالا للنقل، من بيته في ذلك الصباح كما في كل يوم، من الاثنين إلى السبت، في الساعة السابعة والنصف بالضبط، بعد أن مارس تمارين الكي غونغ لمدة نصف ساعة، واستحم تحت دوش ماء بارد، ثم أعد فطوره المعتاد: قهوة بحليب الماعز وخبز محمص مع الزبد وقطرة صغيرة من العسل. كان يعيش في مركز مدينة بيورا، وكان صخب المدينة قد انفجر في شارع آريكيبا، وغصت الأرصفة العالية بأناس يتوجهون إلى مكاتب عملهم أو إلى السوق أو يوصولون أطفالهم إلى المدرسة. بعض المتدينات كن يتوجهن إلى الكاتدرائية من أجل قداس الساعة الثامنة. وكان الباعة المتجولون يعلنون بأعلى صوت عن بضاعتهم من المقالي والفطائر وكل أنواع الترهات. وكان الأعمى لوثيندو قد استقر في موقعه عند الناصية، تحت شرفة البيت الكولونيالي، وعلبة جمع الصدقات عند قدميه. كل شيء كما في كل يوم بالضبط، ومنذ أزمنة لا ترقى إليها الذاكرة. ثمة استثناء وحيد. ففي هذا الصباح ألصق أحدهم على بوابة بيته القديمة التي من خشب مزين بمسامير حديدية، عند مستوى المقرعة البرونزية، مغلفا أزرق يقرأ عليه بوضوح، وبحروف كبيرة، اسم صاحب البيت: دون فيليثيتو ياناكيه. وعلى ما يذكره هو نفسه، كانت تلك هي أول مرة يترك له فيها أحدهم رسالة معلقة بهذه الطريقة، كأنها إشعار قضائي أو غرامة. فمن المعهود أن يدس ساعي البريد الرسائل من فتحة في الباب إلى الداخل. انتزع الرسالة المعلقة. فتح المغلف وقرأها وهو يحرك شفتيه مع تقدمه في القراءة. السيد ياناكيه أن تسير أمور شركة ناريهوالا للنقل التي تملكها على ما يرام يشكل ذلك مصدر فخر لبيورا وأهالي بيورا. ولكنه يشكل خطرا أيضا، فكل شركة ناجحة معرضة للسطو والتخريب على يد الحاقدين والحاسدين وغيرهم من الأشرار الذين يوجد كثيرون منهم مثلما تعرف حضرتك. ولكن لا تقلق. فمنظمتنا ستتولى حماية شركة ناريهوالا للنقل، وحماية حضرتك بالذات وأسرتك الموقرة من أي أذى أو مضايقة أو تهديد من الأشرار. ستكون مكافأتنا عن هذا العمل مبلغ 500 دولار شهريا (وهو مبلغ متواضع بالنسبة لثروتك كما ترى). سوف نتصل بك في الوقت المناسب بشأن طريقة الدفع. لسنا بحاجة للتأكيد لك على ضرورة الحفاظ على أعلى قدر من التكتم حول هذا الموضوع. فالأمر كله يجب أن يظل بيننا. وليحفظ الله حضرتك. وبدلا من التوقيع، كانت الرسالة تحمل رسما فظا لما يشبه عنكبوتا. قرأها دون فيليثيتو مرتين أخريين. كانت الرسالة مكتوبة بخط متراقص مع لطخات حبر. شعر بالمفاجأة والمتعة، مع إحساس غامض بأن المسألة لا تعدو أن تكون مزحة سمجة. جعد الورقة والمغلف وكان على وشك أن يرمي بهما إلى سلة القمامة عند الناصية، حيث يقف الأعمى لوثيندو. لكنه ندم على ذلك، فأعاد تمسيد الرسالة ووضعها في جيبه. هنالك حوالى عشرة شوارع بين بيته في شارع أريكيبا ومكتبه في جادة سانتشيث ثيرو. لم يجتزها هذه المرة وهو يهيء في ذهنه أجندة عمل اليوم، مثلما يفعل دوما، بل كان يقلب في عقله مسألة رسالة العنكبوت. هل عليه أن يأخذ الأمر على محمل الجد؟ أيذهب إلى الشرطة لتقديم شكوى؟ المبتزون يقولون إنهم سيتصلون به من أجل «طريقة الدفع». أيكون من الأفضل الانتظار إلى أن يفعلوا ذلك قبل توجهه إلى مفوضية الشرطة؟ ربما لا يكون الموضوع أكثر من ظرافة بطال متعطل يريد له أن يمر بلحظة عصيبة. صحيح أن الجرائم قد تزايدت في بيورا منذ بعض الوقت: أعمال سطو على البيوت، ونشل في الشوارع، وحتى عمليات اختطاف تقوم بتسويتها تحت المنضدة، كما يقال، عائلات البيض في حيي تشيبي ولوس إخيدوس. شعر بالحيرة والتردد، ولكنه كان واثقا على الأقل من أمر واحد: لن يقدم، تحت أية ذريعة أو أي ظرف، سنتا واحدا لأولئك اللصوص. وتذكر فيليثيتو مرة أخرى، مثلما حدث له في مرات كثيرة في حياته، الكلمات التي قالها له أبوه قبل أن يموت: «لا تسمح لأحد بأن يذلك يا بني. هذه النصيحة هي الإرث الوحيد الذي ستحصل عليه مني». وقد عمل بنصيحته، ولم يسمح لأحد بأن يذله. وبعد ما يزيد على نصف قرن يحمله على كاهله، صار عجوزا لا يمكن له تغيير عاداته. كان مستغرقا في هذه الأفكار إلى حد لم يكد يحيي الشاعر خواكين راموس بأكثر من إنحناءة سريعة وغذ الخطى قدما؛ على الرغم من أنه كان يتوقف في مرات أخرى لتبادل بعض الكلمات مع ذلك البوهيمي المتمادي الذي يكون قد أمضى الليل في أحد البارات الصغيرة ويقفل في هذا الوقت عائدا إلى بيته بعينين زجاجيتين، وعدسة المونوكل الدائمة وهو يجر خلفه العنزة التي يسميها غزالته. حين وصل إلى مكاتب شركة ناريهوالا كانت الحافلات قد خرجت في مواعيدها إلى سويانا وتالارا وتومباس، وإلى تشولوكاناس وموروبون، وإلى كاتاكاوس ولأونيون وسيتشورا وبايوبار، وجميعها بعدد جيد من الركاب، وكانت الفانات قد انطلقت كذلك إلى تشيكلايو، والشاحنات إلى بايتا. وكانت هناك حفنة من الناس يقومون بمعاملات إرسال طرود أو يتحرون عن مواعيد حافلات وفانات بعد الظهر. وكانت سكريتيرته خوسيفيتا ذات الوركين الكبيرين والعينين الحيويتين والبلوزات واسعة فتحة الصدر، قد وضعت على مكتبه قائمة مواعيد اليوم والتزاماته وحافظة القهوة التي يأخذ بتناولها خلال الصباح وحتى موعد الغداء. ماذا جرى لك أيها الرئيس؟ حيته . لماذا هذا الوجه؟ هل رأيت كابوسا الليلة؟ العنوان الأصلي للكتاب Mario Vargas Llosa El héroe discreto