في مدينة بوما، عاصمة هذه البلاد الشاسعة حين كانت تسمى دولة الكونغو الحرة وكانت ملكية خاصة لملك البلجيكيين ليوبولد الثاني، ينهمك بلاسيد كلمنت مانانغا في النضال من أجل التحضر في مواجهة البربرية. وهذه البربرية، في نظره، ليس لها الوجه المريع لأعمال العنف، والمجازر، والأوبئة، والجوع التي تنتشر في مناطق أخرى من بلاده، وإنما لها وجه النسيان. المسيو بلاسيد أمضى، في شبابه، أربع سنوات في مدرسة دينية، لكن نظام الحياة هناك كان قاسيا جدا، فانشق عن المدرسة. وربما في تلك الفترة من الصيام والحرمان والصلوات والتراتيل والانضباط الصارم انتقلت إليه عدوى حب الأزمنة الغابرة، واستخلص أن من يستسلم لفقدان الذاكرة التاريخي سيبقى بلا قدرة دفاعية لمواجهة المشاكل، مثلما هي حال فلاحي المرتفعات الكونغولية الذين يجدون أنفسهم بلا دفاع حيال البعوض حين ينزلون إلى السهل. حب المسيو بلاسيد للتاريخ ليس أركيولوجيا، إنه حب مثقل بالقلق على الحاضر. وهو يقول «إذا ما عرفنا ماضينا، سنفهم بصورة أفضل كيف تمضي الكونغو، وسنجد سهولة أكبر في مهاجمة الداء من جذوره». إنه رجل لين، نحيل جدا، خدوم، خجول، وذو أساليب متأنقة. يشغل وظيفة صغرى في مقر المحافظة ويعكف منذ زمن على جمع كافة الأوراق القديمة، والوثائق، والمجلات، وقصاصات الصحف، والرسائل التي لها علاقة بمدينة بوما. إلى جانب منضدة مكتبه، تتراكم على الأرض تلك المواد التي ستشكل ذات يوم جنين الأرشيف التاريخي للمكان. أمضيت وقتا طويلا أشغل نفسي خلاله عن الحر اللزج والذباب البليد بتفحص حزم وثائق، وكتب حروف الهجاء، وكتب تعليم من العهد الاستعماري، ومراجع السلوك الحميد للآنسات، وشهادات وفاة، مرتبة وفق تصنيف السكان الأصليين حسب العرق، والاثنية، والعنوان، وملصقات المحظورات التي كانت تعلق في حي المستوطنين وفي حي الوطنيين خلال تلك السنوات التي نزل فيها الأوروبيون هنا لوضع حد لتجارة الرقيق، حسب اتفاق برلين في العام 1885، وتحضير البلاد، باستخدام التجارة الحرة، لتنفتح على العالم وتزدهر. لم يفعلوا شيئا من ذلك. فعندما استقلت الكونغو في 1960، لم يكن فيها خريج مهني كونغولي واحد. وتجارة الرقيق كانت لا تزال قائمة، وإن بطريقة مستترة. والتجارة لم تكن حرة قط، وإنما احتكرتها القوة الاستعمارية التي اعتصرت قبل رحيلها موارد البلاد وناسها بلا رحمة. المسيو بلاسيد كتاب تاريخ حي، والتجول معه في بوما هو رؤية تحول هذه البلدة البائسة المنسية والحزينة، إلى الضيعة النشطة ومتعددة الألوان التي كانت عليها في أصولها، في أواخر القرن التاسع عشر، حين كلف البلجيكيون بنائين ألمانا ببناء هذه البيوت المكعبة، من طابقين، بخشب صنوبر مجلوب من أوروبا وصفائح معدنية، لا بد أنها كانت تحول البيوت إلى أفران في ساعات ارتفاع الشمس. ومازالت تلك البيوت موجودة هنا، خربة ولكنها قائمة، بأعمدتها الحجرية، ومصاطبها الطويلة، وشرفاتها ونوافذها ذات القضبان الحديدية، وسقوفها المخروطية، في صف أمام النهر. أما المقبرة الاستعمارية المسماة «مقبرة الرواد»، فقد اختفت تحت أجمة من النباتات، وإن كانت تطل فجأة من بين الخضرة لوحة قبر حائلة اللون يغطيها الوحل لمبشر من لييج، أو عامل طباعة من أمبيريس أو وكيل تجاري من بروكسل. منزل الحاكم العام المحاط بأشجار باوبا وارفة ومئوية، جدرانه مزينة بزخرفة ناتئة، حيث ما زالت تظهر، ممحوة، صورة منحوتة لملكة بلجيكا. في الطابق الأول من هذا المنزل الذي يبدو على وشك التحلل مثل مومياء تعود إلى آلاف السنين، يقودنا المسيو بلاسيد إلى حجرة عارية، لا يوجد فيها سوى منضدتين، تجلس إليهما امرأتان. وبقدر غير قليل من الاعتزاز يقول لنا «هذه مكتبة بوما». ويقدم لنا أمينة المكتبة ومساعدتها. ولكن، ماذا عن الكتب؟، لا وجود لكتاب واحد. يوضح لنا أن الكتب محفوظة في صناديق، موزعة في عدة مستودعات، إلا أن خزائن لها ستصنع ذات يوم، وستجلب الكتب إلى هنا، وستمتلئ هذه الحجرة بالقراء. وحتى ذلك الحين، تحضر أمينة المكتبة ومساعدتها في الموعد الدقيق إلى موقع عملهما، فتمضيا ساعات الدوام الثماني النظامية. وتنالان راتبا، لا بد أنه لا يقل وهما عن الكتب التي تشرفان عليها. لم تكن تلك هي تجربتي الأولى مع الوظائف الوهمية المتخيلة في الكونغو. فمكتبة بوما ليست استثناء. والوظائف المتخيلة أشبه بجائحة أيضا، ولكنها جائحة نافعة، على خلاف الكوليرا أو الملاريا. فقبل يومين من ذلك، في مدينة متادي، على بعد 130 كيلو مترا صعودا في النهر، زرت محطة القطارات التي بناها هنري ستانلي، وهي بناء أصفر متين ومهيب، فيه لوحة حجرية كبيرة، تقول إن أول قطار انطلق منها إلى مدينة كينشاسا «وكانت تسمى آنذاك ليوبولدفيل» في اليوم التاسع من آب 1877. المكان يعج بالنشاط. فصيلة من رجال الشرطة تحرس المنشآت، وهناك مدير محطة لمحته في مكتبه، يضع قبعة وعباءة لا بد أنهما زي العمل. وقد أحصيت في المكاتب حوالى 20 شخصا، بين رجال ونساء، يجلسون إلى مناضد عملهم، يفتحون ويغلقون أدراجا، ويرتبون خزائن ملفات. بل يوجد هناك موظفون لقطع التذاكر أيضا. وتوجد سبورات كبيرة تشير إلى مواعيد خروج القطارات، والمحطات التي تتوقف فيها وهي في طريقها إلى كينشاسا. غير أن خروج آخر قطار من المحطة حدث قبل سنوات طويلة «لم يشأ أحد أن يخبرني عددها، أو أن أحدا لا يعرف عددها». جميعهم يعيشون تخيلا، لا أقل ولا أكثر من تخيل شخصيات رواية خوان كارلوس أونيتي «الترسانة». يذهبون إلى عملهم يوميا، يملأون استمارات، وبطاقات، ويحدثون المعلومات، ويستريحون يوم الأحد. وبعد أيام من ذلك، في بلدة كولونيالية أخرى من بلدات الكونغو السفلى «مبانزا نجونجو»، وجدت نفسي أمام مشهد مماثل. فالمحطة هناك في الحقيقة ورشة إصلاح ضخمة، ومستودع عربات وقاطرات خارج الخدمة، والمكان يغص بالعمال، والحراس، والموظفين الذين يملأون كل المنشآت ويتنقلون من جانب إلى آخر، ويمكن القول إنهم مثقلون بالعمل، ولكن العربات مخلعة منذ زمن طويل، والقاطرات مجرد هياكل صدئة بلا عجلات ولا حجرة قيادة. وما انشغالهم ذاك إلا مجرد تمثيل، إنه تمثيل إيمائي يشارك فيه الجميع. وشيئا فشيئا رحت أكتشف أن الكونغو بأسرها تشارك في تخيلات مماثلة، ودون المضي بعيدا، هناك جناح كامل من مطار كينشاسا الدولي اختفت شركاته، ومع ذلك مازال الموظفون يذهبون لشغل مواقع عملهم، صباحا ومساء، كما في الزمن السابق. لاناثيون الأرجنتينية، السبت 6 كانون الأول 2008 Mario Vargas Llosa Para LA NACION Opini?n S?bado 6 de diciembre de 2008