الحرب حاصرونا. ملؤونا رعبا. الجثث حولنا تملأ الطرقات، ونحن ننتظر مصيرنا كل لحظة. نندس في البيوت القديمة، نحاول خلع أبوابها المهترئة وإسقاط جدرانها القديمة، لنعبر إلى إطرافها البعيدة، نتوقع أن العدو سيهجم من تلك الجهة ثم نتجه إلى الأخرى، وفي قرارة أنفسنا ندرك أن كل الجهات ملغمة. يعبر أعداد من الناس هاربين من الأعداء ومن بينهم أبي، ينظر إلي نفس نظرته المتجهمة تلك، وكأنني أنا من أشعل فتيل الحرب. بياض تقوم بتقديم الخدمة بعناية واهتمام، تذهب لتسأل ثم تعود لتخبر بما يفترض القيام به قبل ميعاد الأشعة. تتناول من الدرج القريب منها ورقة وتكتب الخطوات التي يجب اتباعها، تؤدي مهامها وكأنها تحب عملها. يأتي شخص يتجاوز الطابور وبصوت أجش يقول: (هيييه خذي) ويرمي لها ورقة تقوم بإكمال إجراءاتها كما اعتادت، ثم تقدمها له قائلة بصوت خجول : تفضل. يأخذها ويرحل بطريقته التي جاء بها، دون أن يستخدم كلمات مثل شكرا أو لو سمحتِ. تعود لتكمل الإجراءات مع الشخص السابق وملامح الألم في عينيها. تردّد ثلاثة سود يضربون رجلا أبيض. يأخذون ممتلكاته ويرحلون... رأيتهم من نافذة الفندق الذي نزلت فيه في أحد شوارع جوهانسبرج. الرجل الأبيض يرتمي على الأرض. كان ذلك قبل شروق الشمس بقليل. عندما أشرقت الشمس بدأ المارة يتزايدون والرجل مرمي على الناصية الأخرى من الشارع ولا أحد يهتم. امرأة عابرة التفتت تجاهه. ترددت في بداية الأمر، ولكنها حزمت أمرها وعادت إليه. ربتت برفق على خديه ورأسه ولم يستجب لها. مدت يدها إلى حقيبتها واستخرجت قنينة ماء. أخذت القليل بكفها ومسحت به وجهه. استجاب وجلس... أسقته بقية القنينة ثم نظرت إلى ساعتها ومسحت بيدها على رأسه ورحلت. انسحاب «اتركوني أعيش بهدوء». قالها ومعها آهة طويلة جدا. لم يعد يتواصل مع أصدقائه كما كان، وبدأ شيئا فشيئا ينسحب من عضوية المناشط ورئاستها، ويحاول تفويض الكثير من الأعمال الموكل بها. أخذ يميل إلى السكون والعزلة. حتى في عمله أصبح لا يؤدي إلا الحد الأدنى ليحصل على مرتبه الشهري، لم يعد يعطي لكلام الناس ونظراتهم ولا لشتائمهم أي تأثير أو اهتمام !. عندما أساء إليه أحدهم، سألوه: لماذا لم تبادله الإساءة؟، لماذا تلعب دور المتفرج فقط وكأن الأمر لا يهمك؟.. رد بقوله : إن «الحياة من فوق الأربعين أبسط بكثير من هذا التعقيد، الحياة من فوق الأربعين مناسبة للفرجة فقط».