لعل معظم السعوديين الذين تشارف أعمارهم على الأربعين عاما أو أكثر اليوم لا يزالون يذكرون بمزيج من الفخر والحنين كلمات إحدى أجمل الأغنيات الوطنية وأقواها تأثيرا، وهي أغنية «وطني الحبيب»، هذه الأغنية المحفورة في وجدان الكثيرين منا تعتبر من أوائل الأغاني الوطنية السعودية وأحد أكثرها انتشارا، بعد أن أبدع في أدائها متغنياً بحب الوطن «صوت الأرض» فناننا الكبير الراحل طلال مداح، والأغنية هي عدة أبيات فقط من قصيدة كتبها الدكتور مصطفى بليلة، ومطلعها (روحي وما ملكت يداي فداه.. وطني الحبيب وهل أحب سواه؟). وقد استحضرت في ذهني الكلمات البسيطة والمؤثرة لهذه الأغنية التي نجحت في التعبير بصدق عن مشاعرنا تجاه الوطن، ما جعلني أتساءل عن أسباب تقصير الحركة الفنية المحلية في إنتاج قدر أكبر من مثل هذه الأعمال التي تحفز الولاء الوطني، خصوصا في هذا التوقيت بالذات الذي نحن أحوج ما نكون فيه لتعزيز اللحمة الوطنية، والالتفاف حول قيادتنا الرشيدة التي حافظت على بلادنا كواحة للأمن والاستقرار والتنمية وسط منطقة تموج بالاضطرابات، وتهدد النزاعات الطائفية وشبح التقسيم الكثير من دولها من حولنا، بعد تنامي المد الإرهابي وعدم الاستقرار السياسي الذي تشهده العديد من البلاد العربية الشقيقة. ورغم أن حب الأوطان هو عاطفة متأصلة في النفوس، إلا أنني أعتقد بأن وزارة الثقافة والإعلام يمكن أن تقوم بدور أكبر في إذكاء ذلك الحب، وتعزيز المشاعر الإيجابية في قلوب المواطنين تجاه بلادهم من خلال توجيه الإعلام المشاهد والمسموع لبث هذا النوع من الإنتاج الفني؛ سواء القديم منه أو الجديد، وعلى مدار العام، وذلك عوضا عن اقتصاره على مناسبات محددة كاليوم الوطني أو مهرجان الجنادرية، كما ينبغي اعتبار تلك الأعمال مكونا أساسيا على الخارطة البرامجية للإذاعة والتلفزيون، وتشجيع الوسط الفني على إنتاج المزيد منها؛ مع رصد مكافآت سنوية مجزية على أفضل الأعمال الوطنية كل عام. من جانب آخر، فإن هناك ما يدعو للتساؤل عن أسباب عدم الإقدام حتى الآن على إنتاج عمل فني ضخم؛ سواء سينمائي أو تلفزيوني أو حتى مسرحي، لتوثيق ملحمة تأسيس المملكة على يد المغفور له الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، بحيث يصور العمل كيفية نجاح جلالته في توحيد البلاد وتحويلها من كيانات صغيرة متناحرة إلى دولة عصرية لها ثقلها السياسي وتأثيرها الاقتصادي إقليميا ودوليا. وكما أن لمختلف الشرائح المهنية في مجتمعنا دورا مهما في حماية الوطن كل من موقعه سواء العسكريون منهم أو المدنيون كالعلماء ورجال الأعمال والافتصاديين والموظفين والمهندسين والأطباء والمصرفيين، فإن هناك دورا لا يقل أهمية ينبغي أن يقوم به الفنانون السعوديون في كافة مجالات الإبداع كالشعر والغناء والتمثيل والكتابة الروائية والإخراج والتلحين والتوزيع الموسيقي، وذلك من خلال الحرص على تنويع أعمالهم، سواء أكانت تمثيلا أو غناء، لتشمل الجوانب الوطنية وعدم اقتصارها على الموضوعات العاطفية أو الدرامية والكوميدية المكررة. وقد لمست خلال الإجازة القصيرة التي قضيتها الأسبوع الماضي في القاهرة التأثير الكبير للأغنية الوطنية على وجدان الشعب المصري الشقيق خلال المرحلة الحرجة التي تلت انطلاق ثورتي يناير ويونيو، وكيف نجحت بعض الأعمال الغنائية الوطنية المصرية في حشد التأييد الشعبي الجارف للجيش المصري الذي قاد البلاد إلى بر الأمان بعد فترة عصيبة من الاضطراب السياسي. ومن بين ما لفت انتباهي في مصر هو تفاعل الكثير من السائحين السعوديين، مع قيام فنانين عرب مغمورين بغناء أغانينا الوطنية الشهيرة في أماكن الترفيه، وغالبا ما يتم أداؤها بشكل ركيك ويترافق مع تصرفات غير لائقة من قبل البعض؛ والمؤسف هو قيام بعض صناع السياحة في الخارج باستغلال عاطفتنا الوطنية بأداء تلك الأغاني للحصول على المزيد من المال. كما أوجه دعوة بهذه المناسبة لفنان العرب وصوت الوطن؛ المبدع محمد عبده باعتباره عميدا للفنانين السعوديين وربما أغزرهم إنتاجا طوال تاريخه الفني الحافل، لإنتاج البوم يخصصه للمزيد من الأغنيات الجديدة ذات الطابع الوطني تتنوع موضوعاتها لتشمل الحث على الالتفاف حول قيادتنا الرشيدة، والدعوة للتسامح والتعايش مع الاختلافات، ونبذ العنصرية والطائفية، والحفاظ على مكتسبات التنمية. ختاما، أعتقد بأننا بحاجة لإعادة النظر في دور الفنون بشكل عام وعدم اقتصار نظرتنا إليها باعتبارها أدوات ترفيه فقط، بل يتعين علينا كمجتمع وفنانين وأجهزة رسمية توظيف مختلف مجالات العمل الفني باعتبارها أدوات للتنمية الوطنية مثلها مثل الاقتصاد والصناعة والسياحة، وثمة بعد أخير للموضوع هو ضرورة أن يقابل الزيادة الملحوظة في إنتاجنا الغزير من الأغاني العاطفية والأناشيد الدينية، إنتاج مشابه من الأغنيات الوطنية شريطة أن ترقى الأعمال الجديدة إلى مستوى الأعمال السابقة المتميزة، والتي من أبرزها «وطني الحبيب» و«فوق هام السحب» و«يا بلادي واصلي» و«الله البادي ثم عز بلادي» و«لبيه يالحد الجنوبي».