تدار حرب العدوان الإسرائيلي الطاحنة على قطاع غزة وسط بيئة دولية وإقليمية غير تقليدية. ربما لأول مرة، في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الممتد لسبعة عقود، تحدث تحولات على المستوى الإقليمي، وعلى مستوى مواقف بعض العرب، راوحت بين مساواة المعتدي بالضحية، حتى وصلت ذروتها إلى مستويات بالتنكر لما كان يطلق عليه قضية العرب المركزية الأولى، ومن ثم المساومة على الأمن القومي العربي! لقد ظنت إسرائيل وسط هذه البيئة الدولية والإقليمية الحاضنة والمحرضة على العدوان أن حساباتها وصلت لوضعية متقدمة من الثقة، جعلتها ومن يقف معها لا يأبهون حتى بالحد الأدنى من الحذر على إخفاء التورط في المؤامرة، لدرجة أن بلغت الثقة ببعض الفعاليات الإقليمية مستوى الكشف عن نفسها صراحة! لقد كانت الثقة في نجاح العدوان عالية جدا... ولم يحسب حساب أي احتمال لفشل العدوان، ولو بنسبة 1% أو حتى أقل! لكن عند دحر العدوان سيشهد العالم دقة حسابات الطرف الآخر في المعادلة. لقد وصلت المقاومة في غزة إلى قناعة أن قضيتهم العادلة لا يخدمها إلا أبناؤها. والأهم: أن السلام الذي يتطلع إليه العدو ليس سوى الاستسلام لشروطه وأهدافه من وراء احتلاله وحصاره وعدوانه المستمر. والركيزة الأهم التي قامت عليها استراتيجية المقاومة كانت تتمحور حول: عدم الرضوخ لإمكانات الردع التي تمتلكها إسرائيل. لقد قدرت المقاومة في غزة: أن تحدي إمكانات الردع التي تمتلكها إسرائيل سيكون باهظ التكلفة لدرجة عدم إمكان الدول لدفعه، لكن حركات التحرر لها منطقها الخاص في هذا الأمر. لقد استعدت المقاومة في غزة لدفع تكلفة تحدي آلة الحرب الإسرائيلية.. ومواجهة آلة إعلامه النافذة.. وعلاقاته واتصالاته بالقوى الفاعلة في النظام الدولي والإقليمي. لم تعتمد المقاومة في غزة خطة دفاعية محكمة لتحويل غزة مقبرة للغزاة، فحسب... بل، أيضا، اعتمدت استراتيجية هجومية تنقل بها الحرب لعمق إسرائيل الاستراتيجي. لقد حفرت المقاومة في غزة الأنفاق لما وراء خطوط العدو.. وأقامت شبكة متقدمة من الصواريخ المتحركة والثابتة محلية الصنع وصل مداها عمق إسرائيل الذي لم تصله أي من جيوش العرب النظامية، طوال أربع حروب مع إسرائيل. كما لم تغفل المقاومة في استراتيجيتها المعقدة للمواجهة الحاسمة مع إسرائيل، الجانب الإخلاقي. لم تعتمد المقاومة سياسة البدء بالعدوان، لتكتسب ميزة حق الدفاع عن النفس. كما أن المقاومة تجنبت في المواجهة استهداف المدنيين، إلا في مستواها المعنوي والنفسي. على مستويات التدريب والانضباط، بلغت المقاومة مستوى متقدما ورفيعا لدرجة تفوقت فيها، بشهادة محللين استراتيجيين غربيين، مستويات تدريب قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي مثل لواء جولاني، وبالذات في ما يخص تكتيكات المواجهة وأخلاقيات القتال. سيذكر التاريخ أن رجال المقاومة في غزة كانوا يتحلون بشرف ونبل القتال النظيف، لم يستهدفوا مدنيين قط، بينما الجندي الإسرائيل وثق عليه استمتاعه المريض باستهداف المدنيين، لدرجة العربدة والهوس والتورط في قتل المدنيين بدم بارد في مجازر ميدانية جماعية. ولنعرف مدى تقدم استراتيجية المقاومة في المواجهة مع جيش يمتلك كل إمكانات الردع المتصور توفرها في جيش من الجيوش، أنها استراتيجية تقوم 100% على الاعتماد على النفس. لا مجال لإبقاء العدو مرتاحا، ولو لحظة واحدة، على تراب غزة الطاهر. تقاتل المقاومة في غزة، بحرفية عسكرية متقدمة ومعنويات تلامس السحاب وأخلاقيات قتالية فذة في ظروف شديدة الصعوبة والتعقيد، ربما لم تواجهها أي حركة تحرر وطني عرفها التاريخ الحديث، فالحصار محكم.. والمنافذ للتموين والإمداد مغلقة.. والدعم السياسي مفقود.. والهجوم الإعلامي فتاك. وأهم من كل ذلك تنعم المقاومة في غزة بتوفر جبهة صمود داخلية صلبة حاضنة للمقاومة.. واثقة بزعمائها.. مستعدة للتضحية لأبعد مدى.. موقنة بأن النصر لها، بإذن الله. أوضاع بالغة الصعوبة والتعقيد تقاتل فيها المقاومة، حتى بلغ التعب من العدو مداه.. ووصلت معنوياته، في جنوده ومدنييه أدنى مستوياته.. وبلغ اليأس في زعامته السياسية وقادة جيشه مبلغه، فأخذ العدو يستجدي وقف القتال! لكن هذه المرة لن يوقف القتال إلا بشروط المقاومة... يبدو أن العدو ومن يدعمه نسوا حقيقة تاريخية عن الحرب تقول: إنه من السهل أخذ قرار الحرب، إلا أن من أخذ قرار شنها لا يمتلك قرار وضع أوزارها. (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).. صدق الله العظيم.