رن هاتفي اليوم عدة مرات، كان هذا منذ ساعة. رن مرتين، أو ثلاثا، أو أربع، أو خمسا، أو ست مرات، رن كثيرا. لم يرن مثل هذا الرنين المتتابع من قبل. ولم يرد أن يتوقف، لولا أني أجبته أخيرا. لست أدري لماذا جلست بعد المكالمة على هذه الأريكة، ربما لأسترجع ما قيل، وأتذكر وصولي المتأخر إلى مطار القاهرة. كنت أعرف المصريين -وجلهم من الشبان- يتحدثون ويضحكون بأريحية في الطرقات. أعرف قائدي المركبات، لا يتركون أيديهم عن أبواق التنبيه. من حين لآخر، يخرجون أيديهم من النوافذ، عند إشارات المرور، يدخنون السجائر، ويثرثرون في كل الأسرار المباحة وغير المباحة. أتذكر أنني حين أتحدث مع أحدهم، أرى على ملامحه مسحة البهجة والسرور. رغم الأوضاع، الاقتصادية، والسياسية، التي تمر بها البلاد، الثورة، تعديل الدستور، الانتخابات، إلا أن الابتسامة لا تفارق محياهم. رأيت أن هذا يدعوني إلى أن أبتسم، بالأخص في أول اللقاءات، ومع أناس جدد، لا أعرفهم، وينكروني. إن لم أفعل!، فسوف يتطير – بعضهم – مني، ومن ثم ينعتوني!، بوجه الشؤم، فأنحسهم طيلة ذلك اليوم. لذا، منذ صعودي على متن الطائرة، أحاول أن أستلهم الابتسامات، أصوبها على من أعرف ومن لا أعرف. أختلس الابتسامة عند هبوط الطائرة، مع رجال الجوازات، الجمارك، حاملي الحقائب، هكذا حتى التقيت بصديقي مصطفى، الذي استقبلني بابتسامة، طغت على كل ابتساماتي السابقة. القاهريون لطفاء في كل الأحوال، مع ذلك مصطفى أسدى إلي نصيحة، بعدم سلك الطرق وحيدا. بعد ربع ساعة، أو يزيد، من السير، كرر علي أن نسلك طريق ستة أكتوبر، مكان سكنه، وعائلته الذين أعرفهم جميعا، منذ كانوا يعيشون في السعودية. لكنني ألتفت إليه وقلت: - الدنيا ليل، والصباح رباح، خذني إلى الشقة. - يا خالد! يا خالد .. أنت ضيفنا. بصعوبة شديدة، وافق، على أن ينقلني إلى سكني، شريطة أن أقبل دعوته، نهار اليوم التالي. *** لم يكن بالإمكان المكوث أكثر مما كان، المناسبة رائعة، لكن الأبوين غادرا بعد الغروب. فتوجهنا أنا ومصطفى إلى مركبته. أثناء السير، ببطء، يقترح أمكنة، لتكملة باقي السهرة. القاهرة غنية بتعدد المظاهر السياحية، وفي أي وقت. مصطفى يقترح أماكن حديثة: رمسيس، فنادق، مولات. وأنا أقترح أماكن قديمة: خان الخليلي، مصر القديمة، مقاهي شعبية. أخيرا استقر رأينا على الحسين، أحد أحياء القاهرة، في الجمالية، وأحد المعالم الأثرية القديمة، الذي كنت لا أعلم سبب وجوده هنا بالتحديد. قال مصطفى: هذا المسجد بناه الوزير الصالح طلائع، في عهد الفاطميين سنة 549ه (1154م). له ثلاثة أبواب، مبنية بواسطة الرخام الأبيض، كلها تطل على خان الخليلي، عدا باب آخر بجوار القبة، يعرف بالباب الأخضر. سمي بهذا الاسم، لاعتقاد البعض، بوجود رأس الإمام الحسين بن علي، مدفونا فيه. ويضيف إن بعض الروايات تقول: مع بداية الحروب الصليبية، خاف حاكم مصر، الخليفة الفاطمي، على الرأس الشريف، من الأذى الذي قد يلحق به، في مكانه الأول في مدينة عسقلان، في فلسطين، فأرسل يطلب قدوم الرأس إلى مصر. حمل الرأس الشريف إلى مصر، ودفن في مكانه الحالي، وأقيم المسجد عليه. *** عندما اقتربنا من مقهى الفيشاوي، استقبلتنا رائحة النرجيلة، وطالعتنا الوجوه المتعددة، اصطفت في المقهى العتيق. قال مصطفى: فهمي الفيشاوي، هو صاحب هذا المقهى. فهمي أحد فتوات حي الجمالية، ليس الآن، بل في القرن الثامن عشر، كان يدير، عبر هذا المقهى، شؤون المنطقة بأكملها. يقصده، طلاب العلم للاستذكار، وملتقى للحركات الطلابية، السرية، يتم الإعداد للمظاهرات، من هنا، ضد جيش الاحتلال الإنجليزي، تحت ستار تناول الشاي. في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كان يلجأ إليه محبو السهر، بعيدا عن الغارات، فتغلق أبواب المقهى، ويسهرون في الداخل، حتى صلاة الفجر. بقدر ما كنت عديم الإحساس، إزاء إغراءات النرجيلة، بعكس التعاطف مع الماضي الجميل، لا مجال دون التمتع بارتشاف شاي الفيشاوي، الأخضر، مع النعناع، ذي التميز الفريد. لكننا، قررنا التجول في السوق، ثم العودة لتمضية باقي السهرة في المقهى. أثناء المسير، لم تسر الأمور على ما يرام، كان ينبغي علي، بعد بلوغي أواخر العقد الثالث، أن أكون أكثر حرصا على محفظتي، ففيها نقودي، ووثائق هويتي، لا أن أفقدها فجأة، وأجعل صديقي، وغيره، يحاولون معي العثور على من انتشلها من جيب بنطالي. رغم تكرار زياراتي لسوق الحسين، وحرصي الدائم، إلا أنني هذه المرة، وقعت في مصيدة أحد النشالين، سرقت فعلا. المحفظة كانت هنا، والآن، لا أجدها في جيبي. رفع صبي المقهى حالة الطوارئ ذلك المساء، كان يصدح: - السعودي سرق.. الفلوس راحت.. الرجل مغترب.. لا نريد الفلوس.. ترجع الوثائق فقط. بما أن أحدا لم يتكهن من معرفة السارق، كذلك لم يسرق أحد في السوق منذ مدة، قرر الصبي الحصيف في مثل هذه الأمور، وضع مكافأة مقدارها ألف جنيه، لمن يعثر على المحفظة، دون ما فيها من نقود. غير أن المحفظة كان فيها ألفا دولار، حصيلة فائدة وديعة بنكية، ومئة جنيه، وقرابة خمسين ريالا. لكن المهم، البطاقات، بطاقة الصراف الإلكتروني، الفيزا، بطاقات متعلقة بالعمل، رخصة القيادة. حمدت الله أن الجواز، وتذكرة السفر، لم يكونا بحوزتي تلك الليلة. لكن كما قال الصبي بعد أن وصف السارق بأقذع الأوصاف: - ترجع الوثائق فقط. آنذاك، استلهمت أن نبلغ الشرطة، الغريب أنه لم يوافقني أحد. طلبوا مني وضع عنواني، أرقام اتصال لي، أرقام اتصال لمصطفى، وأكدوا لي أن الناس يكسوهم الغلبة، ولا يرغبون المضرة لأحد. طيبون. - المحفظة ستعود.. لكن النقود يفتح الله. لم يعد في وسع أحد تقديم ما يمكن تقديمه، رأيت الناس يخرجون من الطرق الضيقة، ويزيدون عن الحد، للفرجة على هذا المسروق. نساء كبيرات، رجال متأنقون في لباسهم، بنات شابات، شبان ينظرون، ويتكلمون في شيء محزن. في النهاية، صدقا، شعرت أني غير عابئ. لقد كمنا أنا ومصطفى في أحد الزوايا، أكلنا مجانا. شربنا الشاي، نزلت النرجيلة، لكلينا مجانا. ولولا أن مصطفى يملك مركبة خاصة، لنقلونا حيث نشاء دون مقابل. طيبون. على ذلك، تطلب الأمر مني إلغاء برنامجي اليومي، كنت قد خططت أن أستودع مصطفى هذه الليلة، لمقابلة أصدقاء آخرين. أما الآن فسأستودعه نفسي وأتشبث به. *** انتقلت في اليوم التالي، مرغما، لأقضي باقي المدة في شقته، لعدة أسباب. أولها، لم يعد لدي أي نقود. وثانيها، أنني لم أسدد رسوم الشقة مقدما، وهذا من كرم الشعب المصري، أما الأسباب الأخرى فهي ثانوية. ظننت وظني كان محصورا أني أثقلت على مصطفى، أضعت وقته، ونقوده. لكني رأيت فيه أنه أخذ يسخر بلباقة، وكان سعيدا باقتناص وقت مثل هذا، لم نكن رتبنا له مسبقا. مع ذلك، من البديهي أن أكون متحفظا بعض الشيء، سواء في تجوالي، أو زيارة معرض الكتاب، أو التنقلات الأخرى. أما قائمة الكتب، فقد استبدلتها بقراءة تفاصيل حياة مصطفى. حتى آخر دقيقة، قبل مغادرتي مطار القاهرة، كنت متفائلا. في النهاية، لم ينجح أحد في العثور على المحفظة. صعدت درجات الطائرة، وليس معي غير ابتسامة، ناصعة بيضاء!. *** كتبت هذه الكلمات قبل قليل وأنا أجلس على الأريكة، بعد أن اتصل بي مصطفى، وفاجأني بعد مضي أسبوعين من آخر لقاء تم بيننا، يبشرني: - المحفظة معي.. سليمة.. كل شيء موجود.. إلا الفلوس!.