مشاريع تقسيم المنطقة أو إعادة تقسيمها ليست جديدة ومعظمها مدفوع بالمصالح الاقتصادية لدول كبرى ومصالح ضيقة لجماعات محلية ناقمة. كما أن هذه المشاريع سابقة لوجود إسرائيل وإن كانت تعززت بوجودها. ففي مرحلة مبكرة من القرن الماضي بدأت بريطانيا من خلال شركة الهندالشرقية في ترتيبات إعادة رسم الحدود حول منابع النفط في الخليج العربي وذلك بعد اكتشاف وجود كميات كبيرة منه سنة 1908 في إمارة الأحواز العربية الواقعة على رأس الخليج بين العراقوإيران. وكان بقاء هذه الإمارة كدولة مستقلة أو ضمها للعراق يعني تركز معظم ثروات المنطقة النفطية حينها في أيد عربية. ومع اندلاع ثورة العشرين العراقية التي أجهضت حلم تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كان لا بد من تسليم ثروات الأحواز النفطية لأيد غير عربية وهذا ما حدث حينما قامت القوات البريطانية بمساعدة الشاه رضا خان بهلوي في احتلال الأحواز وضمها لفارس واعتقال وقتل أميرها خزعل الكعبي سنة 1936. ورغم تغير اللاعبين الدوليين وظهور الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة كقوتين ناشئتين بعد الحرب العالمية الثانية فإن فكرة التقسيم استمرت لتشمل إيران بتأسيس أول دويلة كردية في العصر الحديث في شماليها الغربي سنة 1946 بدعم سوفييتي حول مدينة مهاباد. وكان إنشاء دويلة مهاباد جزءا من خطة ستالينية للهيمنة على المنطقة من خلال إنشاء كيانات عرقية وطائفية صغيرة موالية له. ولكن ما لبث الاتحاد السوفييتي أن رفع يده عن مهاباد تحت ضغط التحالف الأمريكي الإيراني ليتم إسقاطها بعد 11 شهرا من إعلانها وليتم إعدام أحد زعيميها وهو قاضي محمد أما الآخر وهو مصطفى البرزاني فقد فر إلى الجانب الآخر من الجبال للأراضي العراقية. وبعد الحرب العراقيةالإيرانية 1980-1988 تفتحت عيون الغرب على أن الثروات النفطية التي تملكها إيرانوالعراق أكبر بكثير من أن تترك في أيد لا يوثق بها غربيا فكان قرار إعادة تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب. وهذا ما نفذ عمليا على الأرض بعد احتلال العراق سنة 2003 وعمل على تعميقه على مدى السنوات العشر الماضية. وحينما بدأ المرجل العراقي بالغليان وأوشك على انفجار كان من الممكن أن يوحد الشعب العراقي في وجه حكومة ظالمة وأصابع أجنبية متلاعبة قذرة تم تنفيس الخزان بتوجيه الانفجار باتجاه آخر بعيد تماما عن المصلحة الوطنية العليا للشعب العراقي الموحد وذلك بالدفع بتنظيم الدولة الإسلامية المتطرف في العراق والشام (داعش) في مواجهة فصائل التطرف الشيعي المغذى إيرانيا وأجنبيا في أتون حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر وتسفح الدم العربي والمسلم من الجانبين. ومع انشغال عراقيي الشمال والجنوب بالاقتتال، تقدمت قوات مسعود البرزاني نحو كركوك والمناطق المختلف عليها مع المحافظات العربية السنية في الشمال فاحتلتها بهدوء وربطت مستودعات وأنابيب النفط المستخرج منها والمتوقع أن يزيد إنتاجه بمقدار (مليون برميل إضافية يوميا) بشبكة كردستان النفطية التي تضخ إنتاجها إلى ميناء جيهان التركي ومنه إلى إسرائيل وأوروبا. وبهذا يتم الاستغناء جزئيا عن النفط الروسي من دولة ذات تحالف قديم مع الغرب وإسرائيل وتشعر نحوهم بالامتنان لما فعلوه من أجلها منذ البداية حتى الآن. ورغم محاولة أردوغان استقطاب الأكراد ومحاباتهم بإمكانية اعترافه بدولة مستقلة لهم فلا أظن أنهم سينسون مطامعهم في ديار بكر التي تضم أغلبية كردية ولا في الحسكة وبعض المواقع المجاورة لها شمال شرق سوريا. وعلينا ألا ننسى أيضا أن مسعود البرزاني وآلافا من أبناء جيله هم من مواليد مهاباد في إيران ولهم فيها مطامع، فالمرء لا ينسى مدارج طفولته طال الزمان به أو قصر. وأكاد أجزم أن مبضع التقسيم لن يقف عند هذه الحدود في العراقوسورياوإيران، بل إن عربستان مرشحة للعودة كدولة مستقلة وكذلك بلوشستان والأولى لتقليل إمكانات إيران النفطية أما الثانية فلتقليل امتداد إيران على البحر العربي ومنازعتها الهيمنة على الساحل الشمالي من مضيق هرمز وإيجاد دولة فاصلة بينها وبين باكستان. إن مخططات التقسيم هذه قديمة وأصبحت مكشوفة لكل من ألقى السمع وهو شهيد، ولكن المأساة تكمن في تجاوب بعض الأطراف معها وتغليب مصالحها الخاصة الضيقة على المصالح الوطنية العليا لبلادها كما يحدث الآن في العراق وفي غيرها من المناطق التي عمل ويعمل فيها مبضع التقسيم.