ومن العجيب أن الأستاذ عمر فروخ حين ترجم له في كتاب تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون قال : إن الشهرة بالأدب غلبت عليه، بينما يقول في صفحة تالية إنه إمام في المذهب الظاهري. قال فروخ : «كان ابن حزم قديرا في التفسير حافظا للحديث وكان فقيها متكلما وعالما لغويا ومؤرخا بارعا وأديبا بليغا ومفكرا رصينا ولكن الشهرة بالأدب غلبت عليه». من المؤكد أن حكمه هذا بأن الأدب غلب على ابن حزم هو أن ابن حزم ألف كتاب طوق الحمامة وهو كتاب أدبي بل هو قمة في الأدب . وقد ألف الشيخ محمد أبو زهرة كتاب العميق بعنوان (ابن حزم حياته وعصره آراؤه وفقهه) وقد أشار إلى كتاب طوق الحمامة الذي ألفه ابن حزم فقال أبو زهرة : إن ابن حزم هو أقرب إلى روح عصره من كل فقهاء زمانه ألم تر أنه كتب في العشق والعشاق وقد كان عصره وبلده والخصب والحضارة وما كانت عليه في الأندلس ثم فراغ النفس عند الكثير من أهل اليسار سببا في الإكثار من القول في الغزل شعرا ونثرا وقد ذهب الخيال في ذلك كل مذهب وجال فيها كل مجال فإذا أجاد عالم وكتب في العشق محللا .. يرد الظواهر إلى أسبابها فقد جاوب روح العصر أكثر ممن تحرج وتأثم وقد كتب هذا بروح العالم ودقته وطريقته في الاستقراء العلمي. وهكذا تجد أن ابن حزم ألف في الأدب طوق الحمامة وفي علم النفس مداواة النفوس وفي الفلسفة الفصل في النحل والملل .. وفي أصول الفقه كتاب «المحلى» لكننا كما يقول الشيخ أبو زهرة مع الأسف نراه الفقيه العنيف في تعبيره الشديد في خصومته حتى ليرمى بأنه عرف العلم ولم يعرف سياسة العلم «ذلك أن حياة ذلك العالم الجليل في ذلك الفردوس لم تكن هادئة .. فهو قد تقلب في أعطاف النعيم في صدر حياته ثم تقلب بعد ذلك في جحيم من الاضطهاد في الشطر الأخير من حياته». وقد أحرقت كتبه في عهد المعتضد (الأندلسي طبعا) بسبب خصومته مع فقهاء عصره فقال رحمه الله : فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا ... الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري. يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إذ أنزل ويدفن في قبري. وهذا شعر كما ترى يقترب من شعر الفقهاء أكثر مما هو من شعر الأدباء. وبطبيعة الحال فإن مقالتين لا تكفيان عن هذا العالم الفقيه المنطقي الأديب الأصولي الشاعر الفيلسوف، ولذلك فلابد من حلقة ثالثة عنه ننشرها الأسبوع القادم، ومن أراد المزيد فليعد إلى كتب العلامة ابن حزم أو إلى كتاب ابن حزم للشيخ أبو زهرة رحمهما الله. السطر الأخير : حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا وبغضا إنه لدميم.