في نهاية مقالي الماضي كنت قد أشرت إلى سياسة الردع وتحدثت عنها بشكل مختصر ورأيت أن ألقي مزيدا من الضوء والمعرفة عن هذه السياسة. وبالطبع سنبدأ بتعريف «الردع» والمقصود به ثم نتحدث عن الناحية التاريخية بشكل مختصر ثم أهمية سياسة الردع في السياسة العالمية ومدى فعالياتها في الوقت الحاضر. يعرف قاموس أكسفورد الردع لغويا هو الفعل الذي يجعل شخصا ما يقرر عدم فعل ذلك الشيء.. وكذلك الفعل الذي يمكن من خلاله منع حدوث أمر معين أو سلوك معين من أن يحدث. وسياسيا يعرف قاموس أكسفورد أيضا الردع بأنه السياسة التي من خلالها يطور الكثير من القوة العسكرية حتى تمنع دولة أو دولة أخرى من الهجوم على بلدك.. وفي ذات الإطار ووفقا ل«ويكيبيديا» فإن الردع هو استعمال التهديد باستعمال العقاب حتى تردع الآخرين عن الهجوم.. ومن أن مفهوم الردع يحتوي على افتراضين أساسيين، الأول هو عقوبات محددة فيما إذا طبقت على المعتدي فإنها ستردعه وتمنعه من ارتكاب جرائم أخرى.. والافتراض الثاني، هو أن الخوف من العقاب سيمنع الآخرين من ارتكاب نفس الجرائم.. وهذا التحليل الأخير كتبه مورجان سمر فيلد عام 2006 في كتابه تقييم الردع. وكذلك تحذر الكاتبة فاليري ارتكا في عام 2010 في بحثها (التقدير الحقيقي ضد العقوبات المشددة)، تحت عنوان كتابها (الردع في قانون العقوبات) بأن مفهوم أو فكرة الردع هي التي تحدد النظام الدولي الجنائي في العديد من المجتمعات الديمقراطية، بالرغم من أن العقوبة والحبس تقليديا لديهما أهداف متعددة بما في ذلك العقوبة المانعة للأهلية وكذلك الردع وإعادة التأهيل. ففي الولاياتالمتحدة الأمريكية وكذلك بعض الديمقراطيات الغربية فإن سياسة المبادرة في العقوبة غالبا ما تطبق بهدف زيادة عامل الردع.. وأخيرا في إطار التعريف بالردع، حيث إن فهم الأمر يؤدي إلى رؤية أفضل للمفهوم السياسي والعسكري لهذا المصطلح، فإن الموسوعة البريطانية تعرفه على أنه الاستراتيجية الحربية التي من خلالها يمكن لقوة ما أن تستعمل التهديد بالرد الانتقامي بشكل فاعل وذلك لمنع حدوث هجوم من قبل قوة أخرى معادية.. وتشير ذات الموسوعة إلى أنه باكتشاف الأسلحة النووية فإن مصطلح الردع طبق واستعمل بشكل أساس نحو استراتيجيات من قبل القوى النووية وكذلك من قبل الحلفاء الأساسيين ومن أن أساس هذه الاستراتيجية هو أن كل قوة نووية تحافظ على مستوى عال من الجاهزية الآنية الفورية وقوة تدميرية هائلة ضد أي معتد.. بمعنى القدرة المرئية والمصداقية نحو من قد يكون المعتدي حتى تكبده ضررا فادحا لا يمكن احتماله تجاه المعتدي المهاجم بقوة يمكنها أن تقيس أي هجوم مفاجئ. ومن خلال هذا المفهوم يستطيع المرء أن يدرك ماهية الردع وأهميته في السياسات العالمية ومدى إمكانية الاعتماد على هذه القاعدة الأساسية في السياسة العالمية والأحداث المعاصرة. ولعل حرص إسرائيل على امتلاك سلاح نووي منذ زمن وكذلك تطوير الهند لسلاحها الذري ثم مقابلة باكستان ذلك بتطوير أسلحة نووية خير مثال على الردع والردع المضاد. وفي إطار الأدبيات التي كتبت في مجال الجغرافيا السياسية، قرأت مؤخرا في مجلة الإيكونمست ECONOMIST مقالا بعنوان (انحسار الردع) ومن أن أمريكا لم تعد تؤثر في أعدائها وحتى في تطمين أصدقائها.. ومرة أخرى نقول بأن المرء يقرأ.. لكي يكتب أيضا لأن من يريد الكتابة لا بد من أن يقرأ.. ونعود للمقال الذي يبدأ بالإشارة إلى أن حلفاء أمريكا أصبحوا متوفرين، حيث إن روسيا تحصل على مساحات جغرافية في دول أخرى، والصين من جهة أخرى تستفز جيرانها ومن أن سوريا تقتل شعبها والكل يسأل عن الشرطي الدولي.. ويتساءل المقال ما الذي قد يدفع أمريكا لكي تردع المشاغبين وتحت أي ظرف قد تقاتل أمريكا.. وكنت قد أشرت في مقال الماضي عند الحديث عن ضعف قاعدة الردع الدولية، فإن ذلك سيشجع العديد من الدول المارقة على التصرف كما يحلو لها إذا كانت لديها شكوك من أن أمريكا لن توقفها عند حدها. وخلال رحلته الأخيرة لعدة دول في آسيا سئل الرئيس أوباما مرات عديدة ومن قبل الصحفيين في تلك الدول، ما الذي تخطط له أمريكا لكي تمارس قوتها وفي كل محطة توقف بها الرئيس أوباما فإن نفس السؤال كان يتردد، وفي رده على تلك الأسئلة قدم الرئيس الأمريكي ضمانات جديدة للدول الحلفاء للدفاع عنها. كما حدث في اليابان وكذلك عندما زار الجنود الأمريكيين في كوريا الجنوبية البالغ عددهم حوالي 28 ألف جندي ورد قائلا من أن أمريكا لن تتردد في حماية حلفائها بما في ذلك استخدام القوة العسكرية للدفاع عنهم. وعند زيارته للفلبين قام الرئيس الأمريكي بتوقيع اتفاقية مع تلك الدولة التي تسهل للقوات الأمريكية، ولمدة عشر سنوات، وبشكل أكبر وأكثر فعالية للحصول على حق استعمال قواعدها العسكرية.. وخلال السنوات القليلة الماضية ظل الرئيس أوباما يردد بأن الناس قد اعتادوا على التفكير بأن المشاكل الخارجية الصعبة ليس لها إلا إجابة واحدة، وهي استعمال القوة العسكرية، وكان الرئيس أوباما يرد بالنفي على مثل هذا الافتراض.. وفي ذات السياق فإن معظم الأمريكيين يرون أن الدفاع عن أمن الحلفاء، حلفاء أمريكا، شيء هام ولكن مع ذلك فإن 6% فقط أيدوا استعمال القوة في أوكروانيا وفق إحدى الإحصائيات هناك. ومن ناحية أخرى وفيما يتعلق بغزو روسيا للقرم، فإن رئيس استونيا توماس هندرك أشار إلى أن الإطار القانوني الذي يحافظ على حدود أوروبا قد تغير بشكل جذري عندما غزت روسيا القرم ومن أن رد فعل الاتحاد الأوروبي كان ضعيفا تجاه ذلك.. ومن أنه لم يعد هنالك شيء يمكن التمسك به.. وهنا أشير إلى أن العديد من المعلومات في مقالي اليوم تعتمد على مقال الإيكونمست السالف الذكر في الرجوع إليها كلما دعت الحاجة واستمرارا في الحديث عن أوكرانيا والقرم والسياسة الروسية هناك، يشار إلى أن هنالك وعلى المستوى القريب أمرين عسكريين يثيران الاهتمام، الأول هو أن دول البلطيق يصعب الدفاع عنها، حيث إن كافة المجال الجوي لتلك الدول مغطى بشكل كامل تحت تهديد الصواريخ الروسية والثاني هنالك قلق أكبر من أن العدوان الروسي قد يكون متخفيا وغير ظاهر لهدف أساسي كما في أوكرانيا وفي هذا الصدد يقول المستر هازبورج من مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية في باريس «فإن المستر بوتن لا يقوم بهجوم أمامي ولكن يؤدي ضربات جودو..» ولذلك تظل هنالك شكوك قائمة من الوضع في دول البلطيق ومن مساعدة تلك الدول تجاه روسيا لأسباب جغرافية وسياسية وعسكرية.. وفيما يتعلق بسياسة الردع والقوة في التنفيذ فإن منطقة الشرق الأوسط هنالك إدراك أن هنالك سياسة أمريكية حذرة، ويشير مقال المجلة البريطانية بحق من أنه منذ أحد عشر عاما غزت أمريكاالعراق خلال أسابيع وعندما سحب الرئيس أوباما القوات الأمريكية من العراق لم يعد هنالك شيء ظاهر بالرغم من البلايين التي أنفقت والكثير من الأرواح التي فقدت ومن أن أمريكا قد تركت خلفها عراقا بالكاد صديقا لها.. ويتحدث ذات المقال أيضا عن أحداث كنت قد أشرت لها في مقالي الماضي عن موقف الولاياتالمتحدة تجاه أحداث أوكرانيا وتجاه الحرب الدائرة في سوريا واستعمال النظام السوري الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وبالرغم من ذلك فإن رد الفعل الأمريكي كان سياسيا أكثر من أي شيء آخر.. ويشير المقال ذاته إلى أن من يتحدث عن انكماش لأمريكا والقوات الأمريكية في الشرق الأوسط ومن أن سياستها غير قوية.. فهؤلاء مخطئون، حيث إن أسعار النفط مستقرة وهنالك قواعد أمريكية بحرية وجوية كبرى في بعض دول المنطقة ومن أن المحادثات مع إيران بشأن الحد من تطوير قدراتها النووية العسكرية في طريقها نحو النجاح، فكل هذه وغيرها دلائل على الوجود العسكري والسياسي الفاعل القوي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبالانتقال من الشرق الأوسط إلى الصين يتحدث المقال عن حرب أمريكا في أفغانستان، لأكثر من عقدين من الزمن وأشار إلى أن الرئيس الأمريكي عازم على سحب القوات الأمريكية من هناك والتي يربو عددها على الثلاثين ألف جندي - ولدينا أيضا سابقة انسحاب أمريكا من العراق - لذا فإن افغانستان، ومن وجهة نظر الكاتب ستعود تحت سيطرة طالبان والجماعات التي تدور في فلكها بعد انسحاب أمريكا. ونعود لذكر الصين واستيلائها على بعض الجزر اليابانية حتما لن يدفع أمريكا إلى الدخول في حرب مع الصين، وبالرغم من تعهد الرئيس أوباما واستعداده لوضع القوات الأمريكية في اليابان - 50 ألف جندي - لدعم اليابان ومن أن مدى اللجوء إلى القوة هناك ما زال تحت الاختبار. وكذلك أيضا بعض المشاكل بين الصين والفلبين، حيث إن الصين سبق أن استولت على جرف تابع للفلبين ثم انسحبت منه ومن آخر منذ عامين وكذلك يظل الوضع العسكري الخطير بين الكوريتين ما يقلق في إطار الوضع الدولي العام والتوازنات الدولية، حيث إن هناك مخاوف من أن تصبح كوريا موحدة وهذا الأمر بالطبع مقلق للصين.. وكذلك فإن العلاقات بين الأخيرة وتايوان في حالة مد وجزر بالرغم من العلاقات الاقتصادية بينهما إلا أن أكثر من 70% من شعب تايوان يعتبرون أنفسهم تايوانيين وليسوا صينيين.. ومن خلال هذه القلاقل الجغرافية السياسية بين الصين من جهة والعديد من الدول المجاورة لها فإن العديد يرون أنه بالرغم من ذلك فإن الولاياتالمتحدة لن تحارب الصين في هذا الصدد.. وهنالك مقولة في مقال للإيكونمست محل البحث تشير إلى أن حلفاء أمريكا في آسيا يرفعون من قدرات وكفاءة قواتهم المسلحة، حيث يشيرون إلى أن المظلة النووية الأمريكية التي هم تحتها بها «ثقوب». وفي إطار هذه المشاكل في الخارج حول العالم والتي لها علاقة بالتغيرات الجغرافية السياسية وزيادة نفوذ بعض الدول مثل روسياوالصين، ودفع ذلك صانعي القوانين الأمريكية رجال الكونجرس إلى مطالبة الرئيس الأمريكي بدور أكثر فعالية في مجال العلاقات الدولية والجغرافية السياسية وخصوصا الجمهوريين من رجال الكونجرس الأمريكي، ولعل العديد يتذكر موقف وزيرة خارجية أمريكا السابقة - هيلاري كلنتون - ووزير الدفاع السابق ورئيس هيئة الأركان في ذلك الوقت الذين كانوا يؤيدون تدخلا أمريكيا في سوريا، ولكن الرئيس الأمريكي وضع «فيتو» على ذلك القرار. ومن المفيد الإشارة إلى أن مقال المجلة البريطانية يشير إلى أن هنالك فريقين حول الرئيس أوباما، فريق وزارة الخارجية الذي يؤيد أهمية مساعدة أمريكا بأسلحة نوعية لوقف إزهاق المزيد من الأرواح إلا أن هنالك فريقا آخر من وزارة الدفاع وبعض المستشارين يرون عدم إمكانية ذلك.. ويشير المقال كذلك إلى أن الرئيس أوباما يقوم بالتحليل الدقيق لكل خيار حتى درجة الإرهاق، وذلك قبل أن يصل إلى نتيجة أن عدم اتخاذ قرار هو الاتجاه السليم والأسلم.. وفي نهاية المقال يشير إلى أن العديد في أنحاء متفرقة من العالم سوف يسعدهم عدم قدرة أمريكا على ردع المعتدي ولكن أينما يكون هؤلاء فإنهم قد يكتشفون أنه من قد يحل محل النظام القديم أسوأ بكثير ويذكر كذلك في نهاية المقال أن قوة الولاياتالمتحدة قد لا تخيف بذات القدر في حالة عدم وجودها. وخلاصة القول، إن مما لا شك فيه أن سياسة الردع في الوقت الراهن، قد ضعفت وانحسرت ولم تعد كما كانت لأسباب عديدة تم ذكرها في مقال اليوم وبالطبع فإن ذلك يفقد النظام العالمي إحدى آليات الحد من النزاع والصراعات المسلحة عن طريق الردع غير المسلح ومن خلال تملك بعض الدول العظمى قدرات عسكرية تدميرية هائلة.. وبالرغم من وجود تلك القدرات لدى العديد من الدول، فإنه مع مرور الوقت، والأحداث العالمية التي سادت العالم لعدة عقود مضت وتغير المزاج والفكر السياسي لبعض الدول العظمى فإن فعالية وتأثير سياسة الردع ليست كما كانت عليه. وهنالك مقولة لرئيس أمريكي هو الرئيس ثيودور روزفلت الذي حكم من 1901 حتى 1909 ويعد الرئيس السادس والعشرين لأمريكا، الذي من خلال تلك المقولة رسم وحدد الأيدلوجية السياسية لسياسة أمريكا الخارجية خلال فترة حكمه، إذ قال «تكلم بهدوء واحمل عصا كبيرة.. ستذهب بعيدا».