على مدى أربع أعوام متتالية وأنا أشاهد وأرصد فتاة أفغانية متسولة من دون قصد وتعن، فهي متواجدة بشكل دائم أمام مطعم للوجبات السريعة على شارع فلسطين الشهير بالقرب من مقر عملي بجدة، وقد رأيتها أول مرة هناك عندما كانت طفلة في الثامنة، حيث كانت تقف محاطة بمجموعة من الأطفال المتسولين، ولفتت انتباهي بأسلوبها الطفولي العفوي والاحترافي في آن واحد، وهي تستعطف المشترين والمارة أمام مرأى مركبات المرور التي تقف إحداها بالقرب من ذلك المكان، وفي نهاية كل يوم يأتي رجل مسن تكسوه لحية بيضاء طويلة ليلتقطها مع هؤلاء الأطفال بعد منتصف الليل ويحشوهم على متن مركبته المهترئة. ومضت الأيام والشهور والسنون وأنا أشاهدها تتسول مع هؤلاء الأطفال يوميا وفي نفس المكان، كبرت وتحجبت، وبقي الحال على ما هو عليه. ومن المواقف التي أذكرها ولا أنساها أبدا هي أنني شاهدتها ذات مرة تقطع الشارع بجنون مع رفقائها الأطفال، وكادت تتسبب لحظتها في عدة حوادث مرورية، فتوقفت حينها بمركبتي وأخذت أنظر باتجاه ناصية وجنبات الطريق، وإذا بعامل نظافة يخرج من خلف الأشجار ويبدو متألما ومترنحا من ضربة قوية تلقاها تحت الحزام ليتضح أمامي سبب هروبهم. وعلى الرغم من أن إدارة مكافحة التسول قبضت خلال ال13 عاما الماضية على قرابة 350 ألف متسول، 85% منهم أجانب، بمعدل أكثر من 25 ألف متسول سنويا، إلا أن هذه الأرقام والمجهودات التي تقوم بها وزارة الشؤون الاجتماعية، ممثلة في إدارة مكافحة التسول ومكاتب المتابعة الاجتماعية، لا تبدو ملموسة في ظل وجود هذه الظاهرة وانتشارها في كل المدن الكبرى في المملكة، والتي بات التسول فيها ظاهرة تبدو وكأن لا رادع لها، حيث نشاهدها في أغلب الشوارع والأحياء الرئيسية والمراكز التجارية وبشكل متزايد في مواسم رمضان والحج والعمرة وإجازات الصيف، وهو ما يوحي بأن أعداد المتسولين قد تصل إلى أضعاف الأرقام المعلنة عن المقبوض عليهم. وبالتمعن في أسباب انتشار هذه الظاهرة نجد أن لدينا عددا قليلا جدا لمكاتب مكافحة التسول، وهي أربعة مكاتب فقط في كل من جدة، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، والرياض، في حين تضاف إليها نوعيا ثمانية مكاتب للمتابعة الاجتماعية في كل من الخرج والدمام والأحساء والطائف وأبها وتبوك وحائل والقصيم، وهي مكاتب ذات خدمات شاملة وغير مقتصرة فقط على مكافحة التسول. كما أضاف مصدر مسؤول في وزارة الشؤون الاجتماعية نقلا عن صحيفة «الوطن» العام الماضي بأن قلة الاعتماد المالي المخصص لمكافحة التسول هو أهم أسباب العجز عن السيطرة على ظاهرة التسول، وأضاف أيضا أن عدد فرق المكافحة قليل، كما أن سيارات المكاتب محدودة في مناطق ومدن ينشط فيها المتسولون، وهذا عدا التقصير في توعية الجمهور من مواطنين ومقيمين عبر وسائل الإعلام بخطورة التعاطف مع المتسولين ومنحهم المال أيا كان قدره. إلا أن ما سبق ليس كل ما في الأمر، حيث أنه حتى اللحظة لا يوجد نظام لمكافحة التسول، وقد صرح مدير إدارة مكافحة التسول يوسف السيالي لإحدى الصحف مؤخرا، معللا سبب ارتفاع نسبة تسول الأجانب في المملكة إلى «عدم وجود نظام رادع لهم»، أما وزارة الداخلية أو الجهة التي كان الكثيرون يعتقد أنها تتولى القبض على عصابات التسول، إلا أن العقيد عمر الزلال عضو المكتب الإعلامي في وزارة الداخلية أوضح في تصريح للاقتصادية مؤخرا أنه استبعد أن تتحمل وزارة الداخلية مسؤولية ملاحقة المتسولين، مؤكدا أن ملاحقتهم من صميم مسؤوليات وزارة الشؤون الاجتماعية عبر دائرة مكافحة التسول. وبحسب سلسلة من التصريحات الإعلامية، اتفق مسؤولون في عدة جهات حكومية بينها وزارة الشؤون الاجتماعية على أن مكافحة التسول عاجزة عن الحد من مشكلة التسول، ولذلك يناقش مجلس الشورى هذه الأيام إقرار نظام لمكافحة التسول. ووفق هذا الوضع، فإن الواقع يؤكد بأن ساحة التسول حتى اللحظة مفتوحة على مصراعيها للعصابات الأجنبية للاتجار بالبشر والتسول والقيام بما لذ وطاب لهم من الشرور في موسمهم القادم قريبا والمفضل خلال شهر رمضان المبارك، فلا مطرقة المكافحة فاعلة ولا سندان النظام موجود.