نشرت إحدى الصحف إعلانا تجاريا بعنوان (عيش الحياة)، ولئن يخطئ المرء في وضع الكلمة في غير موضعها بحكم اللغة، أو أن يختلط عليه موضعها من الإعراب في الرفع أو النصب أو الخفض أو أن يرفعها أو أن يخفضها بغير ما خصص لها من الأدوات بوضع اللغة، كل هذا وما في معناه قد يقع في دائرة التغاضي عنه في خضم ما ابتلي به الناس اليوم من التيارات الجارفة والتدفقات المكثفة من حضارات وثقافات الأمم والشعوب واختلاطها بعضها بالبعض، وكأنها تنصهر في بوتقة واحدة على أثر هذه الفضائيات ووسائل الإعلام والاتصالات التي جعلت من مختلف الأمم وتباين الشعوب، وكأنهم يعيشون في قرية واحدة متقاربة الأطراف بما يطلق عليه طوفان العولمة، قد يزدرد المرء مثل هذه الأخطاء اللغوية ويتغاضى عنها على مضض وغصة. ولكن الذي يغص في الحلق ويمتنع عن الازدراد هو أن تخطئ القيادات في مؤسسات الدوائر الإعلامية التجارية وشركاتها وتخطئ معها الصحافة ودوائرها التحريرية، كل هؤلاء يخطئون في أبجديات اللغة وأبسط قواعدها العامة مما يستنكره تلميذ من المرحلة الابتدائية. ثم بعد ذلك ينشر هذا الخطأ الفاحش في الصفحة الأولى بكاملها ويتكرر في الأخيرة بكاملها بخليط من تكسرات اللغة ووخمها وتلفيق التراكيب وركاكتها. العنوان الذي نشرته تلك الصحيفة بالخط العريض هو (عيش الحياة) وإذا استوقف المرء تلميذا في المرحلة الابتدائية، فإنه يستنكر هذه العبارة وتنبو أذناه عن سماعها. فإن فعل الأمر عند القاصي والداني يحذف حروف العلة مثل الياء والواو، فالواجب في حق من صاغ هذه العبارة لإعلانه وفي نفس الوقت لا تسلم إدارات التحرير والمشرفون على الصفحات في الصحف أن يقولوا (عش الحياة) بدون ياء بعد حرف العين، ولقد سبق قبل فترة أن وقع في مثل هذه الأوحال اللغوية إدارات شركات التأمين ودوائر الأمن العام والمرور والشرطة والدفاع المدني بإعلانات في اللوحات الكبرى على الطرقات العامة والسريعة والشوارع بعبارات (سوق بذوق أو لا تسوق)، مع أن لام النهي تحذف حروف العلة، والأصل أن يقولوا (سُق بذوق أو لا تسُق)، مثل هذا الاستهجان اللغوي لا يرضى به أحد، ولا سيما أن يقع هذا في المملكة العربية السعودية مهبط الوحي ومصدر اللغة العربية ومنبعها، وهي لغة القرآن، والتي أسست لحضارة من الصعب على الإنسانية أن تعبرها وتتخطاها، وفي صحيفة تصدر من هذا البلد. ولو جاء مثل هذا السقط الوخيم في زاوية من زوايا الصحيفة أو ركن من أركان إعلاناتها أو في طيات كتاباتها، فلربما هان الأمر كما يحدث كثيرا مع كتاب صفحات الرأي، وأنا أحدهم من أخطاء لغوية جسيمة في حق اللغة العربية ليس قصدا، ولكن على ما نحن عليه من تدهور اللغة وتساقط أركانها في كتابات الناس في حياتهم اليومية، أما أن يأتي هذا الخطأ الفاحش على كامل الصفحة الأولى ويتكرر في الأخيرة، فمثل هذا لا يمكن التغاضي عنه بأي حال من الأحوال، ولقد استمرأ البعض هذه الأخطاء اللغوية في مسميات محلاتهم التجارية وإدارتهم ومشاريعهم، ولقد كان الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار يرحمه الله، وهو أحد أساطين اللغة العربية في العصر الحديث، كان يقول أنه يحس عندما يسمع الأخطاء اللغوية في المذياع ونشرة الأخبار ونحوها كأن امرأ يقذف بأحجار على رأسه، فما عساه أن يقول اليوم وصفحات الجرائد بالخط العريض تنشر هذا الوخم اللغوي؟ ولكن الذي يبدو أن هذه البلوى في أيامنا هذه قد عمت على القاصي والداني، حتى أصبح من انجرف في هذه التيارات هم من أصحاب المكانة الرفيعة في اللغة وآدابها. ولقد كتب فقهاء اللغة وعلماء التفاسير البحوث المطولة في معاني آيتين في كتاب الله جاءتا متكررتين بالألفاظ مع فرق واحد بسيط وهو حذف حرف الواو من إحداهما، وتلا ذلك اختلاف شاسع في معنى الآية قوله تعالى (حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها) والثانية (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها)، فنأمل أن نرجع جميعا إلى لغتنا الصحيحة أو على الأقل أن لا نقع في أخطاء فاحشة مثل الذي تقدم معنا.