بعض المهمومين بالآثار، أو لنقل الموهومين بالآثار، يعتقد أن الدولة ممثلة في جهاتها المعنية بالتاريخ والآثار لا هم لها، ولا شاغل يشغلها إلا تقصي الخرائب، وتفقد الدمن، والوقوف على الأطلال، وبعثها وتجديدها وفتحها مزارات للناس، بغض النظر عن القيمة التاريخية أو الثقافية لما يلهج بالحديث عن أهميته، وطلب العناية به، ولأجل ذلك تراه اليوم واقفا ببئر مهجورة يناشد الدولة إعادة حفرها لأن (شحلفون بن حنجل) سقى منها فرسه ذات سفر، أو تراه وقد توسط جبلا يهدي الناس إلى مغارة أوى إليها ذات يوم ثعلب كان يطارده فارس من بني أرنب، ويطالب هيئة السياحة بسلم كهربائي في الجبل يسهل به الوصول إلى مغارة الثعلب، أو تراه وقد أوشكت الريح أن تذهب بثيابه في عرض صحراء يطالب بتسويرها لأنه رأى في المنام أن بها قبر (دغة بن حرقف) التي قضت بداء العنقز في زمن صحن الدولة!، وهكذا ينفق بعض موسوسي الآثار وقته في التنقيب عن مواقع ومواضع لا تعني أحدا سواه، ثم يشغل الإعلام وجهات الاختصاص بالتباكي والتناوح على تلك الآثار، ولو لم يكن بعضها أكثر من منحوتات للرياح وبقية من عوامل التعرية!. وحتى في بعض المناطق ذات العمق التاريخي أو الديني، والتي يغدو كل ركن منها أثرا، ويتضمن كل حي أو شارع ذكرى من الزمن الغابر، يكون من غير المنطقي إحياء كل ذلك الإرث، وإلا فإن مدنا بأكملها ستكون مجرد متاحف للتاريخ، ومزارات تخثر فيها الزمن. ولعل ما يحدث في المدينةالمنورة على سبيل المثال أنموذج لهذا الهوس غير المقنن بكل قديم، إذ لا تكاد يد العمران هناك تمس موضعا دون أن ينبري لها من جملة الآثاريين أو المؤرخين في المدينة لائم أو معترض، ممن لا يريدون لحجر أن يمس ولا لحائط أن يهدم أو بناء لم يعد أكثر من عالة على العمران أن يستبدل بجديد نافع تدرك منفعته البلاد والعباد، وذلك طبعا في ما لا جدوى من بقائه كبعض الخرائب أو الأحواش القديمة، أو المعالم التي تقتضي خطط التوسع إزالتها، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يصدق عليه مفهوم الأثر التاريخي هناك ما زال قائما وسيبقى محل الاهتمام ومحط العناية. إننا بحاجة ماسة إلى تحرير مفهوم الأثر التاريخي، ثم تبديد اللغط الواسع الذي يكتنفه بين الغلاة فيه أو الغلاة ضده، كي نعرف جيدا أي تلك الآثار جدير بالبقاء والاهتمام، بعيدا عن صخب قوم شعارهم الأوحد (يا ناس هذا البيت لا تهدمونه)!