يقوم الكثير من الناس بعملية تنظيف عميق أو «دي كلترنج» من وقت لآخر للتخلص من الأشياء الفائضة في منازلهم وخزائنهم ومكاتبهم وغيرها وترتيب باقي الأغراض التي تثبت أهميتها في أماكن جديدة بشكل منسق. وهذه عادة مفيدة وصحية يشدد على أهميتها أخصائيو فن «الفنج شوي» وهو فن الحياة والفلسفة الصينية التي تؤكد بأن ازدحام الأغراض في مساحة حياة الإنسان له تأثير سلبي على الطاقة. فتكدس الأشياء في مساحة حياة الإنسان يحد من مرور الطاقة الإيجابية في المكان مما يؤثر سلبا على مزاج الإنسان وحالته النفسية ونشاطه وعلاقاته مع من حوله وحتى على نجاحه العملي وقدرته على اتخاذ القرارات. ولذا فإن الكثير من الناس يستشيرون أخصائي الفنج شوي قبل اختيار منازلهم ليس فقط لاختيار الأثاث الذي يسمح بمرور الطاقة الإيجابية وطريقة ترتيبه في المنزل، بل ولاختيار موقع المنزل نفسه ليكون موقعا مليئا بالطاقة الإيجابية المفيدة. ولكن من أهم وأبسط قواعد الفنج شوي هو التركيز على عدم الاحتفاظ «بالكراكيب» كما قلنا فهي تولد الطاقة السلبية وتحد الوصول إلى الأشياء الأكثر أهمية وفائدة في المكان وتسبب هدرا في الوقت والطاقة والمساحة والجهد. ولعل من أمتع النقاشات التي شاركت فيها منذ مدة طويلة، حديثي مع إحدى صديقاتي الأوروبيات قبل أيام وهي صديقة قديمة وعزيزة. كنا نتحدث عن أمور الحياة وفجأة سألتني عن صديقة مشتركة، فقلت لها بأنني لم أسمع صوتها منذ زمن للأسف، فتلك الصديقة المشتركة من النوع المزاجي والسلبي الذي يشكو ليلا ونهارا ويجد لكل اقتراح أو حل لمشكلاتها عيبا بل عيوب ورغم اجتهادي بمساعدتها إلا أنها دائما تشكو وتتذمر. وكل هذا تحملته بصبر ولكن ما يثير الغضب فعلا هو أنها لا تتذكر أصدقاءها إلا حينما تصادفها المشكلات فتأتي ركضا لطلب المشورة، وكلما استقام بها الحال نسيت أصدقاءها، تماما. قلت لها بأنني أصبحت أشعر وكأنني حائط المبكى فقررت أن أعمل عملية «دي كلترنج» في العام الجديد لتنظيف حياتي من هؤلاء الأصدقاء المزعومين لأتفرغ للأصدقاء الحقيقيين الذين يستحقون الصداقة. ضحكنا كثيرا على فكرة «الدي كلترنج» ولكن الموضوع تحول إلى النبرة الجادة حينما حكت لي عن تجربتها المريرة في «فلترة» الأصدقاء والتي فرضتها عليها الظروف. كان زوجها ذا منصب مهم ودخل عال وكان أصدقاؤهم كثيرين، وفجأة فقد زوجها عمله وكل مميزاته في «الإيكونومك ريسشن» أو الانهيار الإقتصادي العالمي وأصبحوا من تعداد العاطلين مثلهم مثل الآلاف في الغرب. تحول حالهم بين يوم وليلة من أعلى السلم لأدناه. قالت لي صديقتي بأن أقسى مامر عليها ليس عدم قدرتها على شراء ملابس لأطفالها أو أدوات مدرسية لهم أو الطعام الذي يحبونه وليس اليوم الذي اضطرا فيه لبيع سيارتهما والحياة بدونها، وليس اليوم الذي عجزا فيه عن شراء دواء لطفلهما لا تغطيه الدولة واضطرت لبيع جواهرها لشرائه بل أقسى مامر عليها هو تجاهل الناس التام لها وعدم السؤال عنها وقطعهم لعلاقاتهم معها ومع أطفالها وحرصهم على تهميشها بعدم دعوتها أو الاتصال بها أو الرد على مكالماتها التي كانت لا تريد بها إلا التواصل الإنساني. صدمتها كانت كبيرة في الكثير من الناس الذين كانت تحسبهم من الأصدقاء والذين كانوا قبلها مستفيدين من صداقتهم معها، متمتعين بموائد منزلها ومآدبها ودعواتها على حفلات الغداء والعشاء والشاي والباربيكيو والماتينيه والسواريه. قالت لي صديقتي بأن هذه التجربة قامت بعمل «دي كلترنج» طبيعي لأصدقائها الذين بقي منهم القلة القليلة التي ظلت تساندها بوفاء، تبث فيها روح الأمل وتسعدها ولو بدعوة بسيطة على كوب قهوة. ابتسمت لها الحياة وتحسنت أحوال أسرتها من جديد، ولكنها تعلمت الدرس. قالت لي ضاحكة بأن كل مرة يتحدث زوجها عن دعوة الناس إلى منزلهم الآن: تمسك هي بالورقة والقلم لتحسب تكاليف الحفل التقريبية، ثم تسحب هذا المبلغ من البنك لتشتري به لأسرتها أو لنفسها شيئا مفيدا. قالت لي انها اليوم تشكر الظروف الصعبة التي مرت بها لأنها علمتها قبل فوات الأوان، أن الاستثمار في الناس مشروع فاشل وأنجح مشروع هو الاستثمار في الذات والقلة القليلة التي تستاهل، وأما الآخرون، فشكرا ومع السلامة..