مساء الأربعاء الماضي كان مساء مختلفا في بني سعد؛ حيث كان الجميع أمام الوفاء لقامة شعرية لها اسمها في مدونة الشعر الحديث، ولها تميزها في لغته التي استوقفت الباحثين والدارسين؛ كان الجميع أمام تجربة محمد الثبيتي، هذا الشاعر الذي حمل لقب شاعر عكاظ، قبل أي شاعر في العصر الحديث؛ وذلك إثر فوزه عام 1428ه، بهذا اللقب. كانت (بني سعد)، في حال استقبال للدهشة التي تتجدد في كل لقاء بمحمد الثبيتي، وفي حال افتخار بهذا العلم الشعري الذي خرج من بين أظهرهم، وقد فعل نادي الطائف الأدبي خيرا حين تحمل مسؤوليته الثقافية في إقامة هذا التواصل الثقافي، بين الأرض وشاعرها، وبين القوم وفخرهم، فكان هذا من عقد الصلة بن الجيل وثقافتهم، وبين الجيل وتجربة شاهرهم، ويسعدني أن أقدم لقرائي الذين أعتز بهم، وأعتذر عن غيابي عنهم بسبب مشاغل متعددة، بعض ما جاء في ورقتي التي شرفت بتقديمها في هذه المناسبة، وقد أسعدني أن قدمت ورقة في تلك الجلسة، التي كنت فيها إلى جانب الصديق العزيز الدكتور عائض ضيف الله الثبيتي، صديق الشاعر ورفيق طفولته، الذي قدم رؤية حول النِشأة الأولى لشاعرنا ومثيراتها، وتجذر الشاعرية في أجداده، ورواية أمه للشعر، وقصة لقائه بسعيد السريحي، في أول الثمانينات، وبجانب الصديق العزيز محمد العباس الذي قدم رؤية حول تحولات المعنى الشعري عند الثبيتي، وجدل الموضوعية مع الغنائية عنده، والوقوف عند شيوع ألفاظ لها دلالتها في شعره، مثل: الرمل، النخل، القصيدة، ويسعدني أن أقدم لقرائي، الذين غبت عنهم أسابيع عدة بسبب مشاغل متعددة، أهم مرتكزات هذه الورقة. في هذه الليلة الشاعرة التي نتحلق فيها حول تجربة الثبيتي الشعرية، يعلو الصوت الشعري على كل صوت، وتعلو فيها تجربته الشعرية العميقة الواسعة على كل مقاربة، وقدر من يراود تجربة الثبيتي التطويح في مجالاتها، من دون الولوج إلى عمقها، لي أن أزعم أني باشرت الحديث عن هذه التجربة في محاضرة في نادي الطائف قبل ربع قرن، ثم بعد ذلك في مناسبات مختلفة، ومنها حديث عن تجربة أداة نقدية مع نصه (موقف الرمال موقف الجناس) قدمتها في مؤتمر النقد العاشر في جامعة اليرموك، عام 2004 م، وغيرها من محاضرات، وكتابات، وفي كل مرة تتجدد الرؤية في نص محمد الثبيتي. لنص محمد تجربة خاصة مع اللغة ومع الرؤية يتجسد عنها التشكيل المتفرد للنص لديه، ولكي نعبر بأذهاننا إلى اختزال عن بعض ما يمكن أن يجسده الحديث عن هذه التجربة، سنحصر الحديث في: الطاقة الشعرية عنده ظواهر في شعره الطاقة الشعرية عنده: من يتأمل تجربة الثبيتي الشعرية يجد أن خلف هذه التجربة طاقة واستعدادا يتمثل فيما يلي: عمق الطاقة التخيلية واتساعها: يحفل شعر محمد بمفردات النبوءة، والعرافة، والاستقصاء، والاحتمال، والقراءة، ولقد شهر قوله: جئت عرافا لهذا الرمل استقصي احتمالات السواد وقوله: هذه أولى القراءات وهذا ورق التين يبوح وقوله: من شفاهي تقطر الشمس وصمتي لغة شاهقة تتلو أسارير البلاد وهذا ينبئ عن طاقة كاشفة، توفر شعرها ووعيها على التأمل العميق والا ستشراف؛ إذ يقف الثبيتي أمام كائناته الشعرية، ليحمل منها الأسئلة، وليحملها الكشف، لنسمعه يقول في هذا النص المعنون ب (البشير): أنا خاتم الماثلين على النطع هذا حسام الخطيئة يعبر خاصرتي فأسلسل نبعا من النار يجري دما في عروق العذارى أنا آخر الموت أول طفل تسور قامته فرأى فلك التيه والزمن المتحجر فيه رأى بلدا من ضباب وصحراء طاعنة في السراب رأى زمنا أحمرا ورأى مدنا مزق الطلق أحشاءها وتقيح تحت أظافرها الماء حتى أناخ لها النخل أعناقه فأطال بها... واستطال وأفرغ منها صديد الرمال يهمنا من هذا النص مانحن في صدد الإشارة إليه وهو الاستشراف ،فهذا الذي يعبر خاصرة الموت يؤول إلى طفل، وكأنها الولادة الجديدة من رحم النطع، ولذلك توازى في التعبير: أنا آخر الموت. مع أول : أول طفل تسور قامته فكأن البشارة قادمة من رحم الموت، تلك البشارة التي لا تتعرى عن الاحتمالات ؛ فتبقى في حيز النبوءة والاستشراف، الممعن في التشاؤم، وقتامة اللحظة، ليقول بعد ذلك: فرأى فلك التيه... الخ وتظل دائرة الاستشراف تداور شعر الثبيتي، تتجدد لديه وتتكرر عبر استجابات مختلفة، كأنها تتعالى على الموت: مات ثم أناب وعاد إلى منبع الطين معتمرا رأسه الأزلي تجرع كأس النبوءة أوقد ليلا من الضوء غادر نعليه مرتحلا في عيون المدينة طاف بداخلها ألف عام وأخرج أحشاءها للكلاب وتجد بوابة الريح التي خرجت نصا مكتملا في آخر تجربة الثبيتي الشعرية، تجدها لديه كانت احتمالا تنبؤيا في التضاريس، في نص البابلي: تدلى من الشجر المر.. ثم استوى عند بوابة الريح أجهش: بوابة الريح بوابة الريح بوابة الريح فانبثق الماء من تحته غدقا، كان يسكنه عطش للثرى كان يسكنه عطش للقرى كان بين القبور مكبا على وجهه حين رف على رأسه شاهدان من الطير دار الزمان ودار الزمان فحط على رأسه الطائران ليكتب محمد بعد عقدين من هذا النص، قصيدة (بوابة الريح)، ويقول فيها: والليل يعجب مني ثم يسألني بوابة الريح! ما بوابة الريح ؟ فقلت والسائل الليلي يرقبني والود ما بيننا قبض من الريح إليك عني فشعري وحي فاتنتي فهي التي تبتلي وهي التي توحي