إنه ليس نادرا أن تجد صديقين متلازمين تلازما حميما حتى لا يكاد يظهر أحدهما دون أن يكون الآخر إلى جانبه، وحين تنظر إلى كل منهما لا تجد في شخصه ما يشدك إليه أو يستدعي منك استلطافا له أو حتى مجرد رغبة في مجالسته ومحادثته، فتستغرب في داخل نفسك عما يشدهما إلى بعضهما رغم ما تظنه من غياب ما يجذب في شخص كل منهما !! وأكثر من هذا، أنك أحيانا قد تلتقي بشخص لدقائق محدودة لكنك ما تلبث أن تجد نفسك غير قادر على مواصلة الجلوس إليه وتبادل الحديث معه، تحس في حضرته بالاختناق وبحاجتك إلى مزيد من الاكسجين تغسل به رئتك تجلو عنها ما حل بها جراء فقد الهواء النقي. لكن هذا الشخص الذي اختنقت به، هو الشخص نفسه الذي يلازمه زميلك ويتحدث عنه بمودة في غيابه، ويلاقيه بفرح وبهجة عند حضوره !! هذا التفاوت في درجة الانجذاب بين الناس، وما يحدث بسببه من تقارب بين شخصين أكثر من غيرهما، سر محير، فمن الجوانب الغامضة في العلاقات التي تنشأ بين الناس، ما يحدث أحيانا من روابط الانجذاب والتآلف والمحبة التي تربط بين اثنين هما في الأصل غريبان عن بعضهما لا صلة قربى تجمع بينهما !! وهذا الانجذاب والتآلف الذي يحدث بين الاثنين، ليس بالضرورة أن يكون بين رجل وامرأة، فهناك كثير من علاقات الصداقة الحميمة والمحبة الوثيقة التي تربط اثنين من جنس واحد وتشدهما إلى بعضهما البعض أكثر من الآخرين، فما كنه ذلك التجاذب الذي يجمع بين اثنين؟ إنه أحد أسرار النفس البشرية التي لم يستطع الباحثون إلى اليوم التوصل إلى حل ألغازها وفك شفرتها. ابن حزم، الفقيه الاندلسي يبدو مقتنعا أن ما يجذب اثنين إلى بعضهما أكثر من الآخرين، وجود تشابه بينهما في الخصال الفطرية، وهذا التشابه هو عامل الجذب وسبب نشوب الحب، يقول: «لاتجد اثنين متحابين إلا وفيهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة». وربما كان هناك كثيرون يوافقون ابن حزم على تفسيره هذا، فينسبون ما ينشأ بين شخصين من روابط المحبة والتجاذب إلى ما يشتركان فيه من الخصال والصفات الفطرية، وفي بعض الأمثال العربية ما يدعم هذا القول مثل (إن الطيور على أشكالها تقع) و (شبيه الشيء منجذب إليه) وغيرها. لكن محمد بن داود، الذي يعده ابن حزم شيخا له، يبدو متشككا في الأمر فهو يقول بما يشبه الإنكار: إن المحبة قد تقع بين العاقلين لتشاكلهما في العقل، لكنها لاتقع بين الأحمقين لتشاكلهما في الحمق؟! عبارة ابن داود تبعث على إعادة النظر في مدى صواب قول ابن حزم إن التشابه في الصفات الفطرية سبب في التجاذب بين المتحابين؟!!.