بعيداً عن القانون والسياسة، هذه سلسلة أفكار أطرحها بناء على تأملات خاصة، وكاذب من يقول إنه خبير في الحب وفنون العشق، لكن نحاول أن نكتب، نجرب أن نقرأ، لعلنا نتعلم في النهاية شيئاً. ونتعلم كيف نحب برقي وحضارة كما أخذنا أشكال الحضارة الظاهرية من ملبس ومأكل ومشرب ومسكن وعمران! لقد كتب العرب في جميع صنوف المعرفة، إلا المحبة والعشق، فقط جاء التناول لماماً في بعض مصنفات الأدباء والعلماء في قديم العصر وحديثه. ولا عجب من ذلك، خاصة وأنه رافق العرب منذ قديم الأزل الكثير من رواسب فكر اجتماعي وأعراف قبلية، جعلت من الحديث في المحبة والهوى يعتبر من العيب! وقد يكون من المجحف التعميم هنا لكن لا يسعنا في هذا المجال سوى التذكير بكتاب طوق الحمامة الشهير، الذي أعتبره برأيي كتب ما كتب عن المحبة بأشكالها الأولى المحكومة بعصور الجواري والمغنيات. وبعض مؤلفات كبار العرب في العشق ولكن ليس كموضوع مستقل بل في سياق ذكر أخبار العرب من هوى وولع وغزل ومجون. فما أحوجنا في هذه الأيام لسطور أخرى تعيد لنا وعينا بالعشق والمحبة وأشكالها وأسمائها الحديثة والمعاصرة. خصوصاً ونحن نعاني على المستوى العربي من نقص في جميع المعارف والمجالات، علاوة أننا في كثير من الأحيان نكتشف بأننا بعد لم نصل إلى سن النضج العاطفي! لقد وهبنا الله قلوباً ليس كي تنبض فقط بل كي تحب! ربما ليس من المناسب هنا محاولة الأتيان بتعريف للحب، مع اختلاف أقوال العلماء والفلاسفة والشعراء من مختلف العصور والجنسيات فيما قالوا عن الحب، لكنها جميعها تتفق أنه فعل إنساني بالدرجة الأولى، مثل الشعور بالحزن وبالغضب وبالجوع وبالبكاء، حاجة إنسانية ملحة، تفتقرها القلوب الفقيرة من الحب، المتخمة بحب المال والجشع. وإنه لا يخلو قلب شخص من العشق إلا الحلف الحافي حسب وصف أحد علماء الدين، فالحب من رقة الطبع، وجميل الإدراك والإحساس. وكما قال الشاعر: إذ أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى، فأنت وعيرٌ بالفلاة سواء! ولا أجمل ممن وصف للمحبة الجزاء الذي يلقاه المحب الذي قاسى لوعات الحب وصبر من قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: (من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة). وكما ورد في رسائل إخوان الصفاء اختلاف رأي العلماء فيه فمنهم من قال إن العشق فضيلةٌ نفسانية وهذا ما أميل إليه. وبعضهم زعم أنه مرضٌ نفساني. وهذا ما أشك به! كما جاء في الرسالة السادسة من رسائل إخوان الصفا: «أن المحبة والعشق فضيلة ظهرت في الخليقة، وحكمةٌ جليلة، وخَصلةٌ نفسية عجيبة. ذلك من فضل الله على خلقه، وعنايته بمصالحهم، ودلالة لهم عليه، وترغيباً لهم به من المزيد». ويقول نزار قباني في وصف الحب: «الحب ليس رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال! الحب هو رعشة.. هو رجفة وعلى الشفاة المطبقات سؤال، هو الإبحار دون سفينة وشعورنا بأن الوصول محال!» لكن قبل أن نفلسف العشق والهوى والحب، كيف نظن بأننا سنحب الآخرين، وبأننا نملك قلوباً إذا لم نتعلم قبل كل شيء كيف نحب أنفسنا؟! قسَّم أجدادنا الحُبَّ إلى درجات مختلفة حسب شدَّته منها: المحبَّة، والهَوَى، والمَوَدَّة، والصَّبَابَة، والعِشْق، والشغف، والوَلَه، والهيام، والتَّيَتُّم وهو أعلى درجات الحُبّ. كما وضع العرب درجات للحب وهي: المحبة، وهي نقيض البغض والمحبة هي غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب. الهوى، محبة الإنسان للشيء وغلبته على قلبه. المودة، هي الحب والهوى الملازم أبداً للقلب. الصبابة، وهي الشوق. العشق، فرط الحب وإذا صح أن تجاوز المقدار في الحب يعني السعادة، فإن العشق بمعنى الحب المفرط يكون المعنى الوحيد السعيد لهذه الكلمة. الشغف: شعفة الجبل رأسه والشغف هو الحب الشديد الذي يتمكن من سواد القلب. وكما قال تعالى في سورة يوسف: «قد شغفها حباً»، والشغاف داء في القلب إذا اتصل بالطحال قتل صاحبه. أما الوله: فهو الولوع بالشيء مع شغل القلب ومشقته. وأخيراً الهيام: هو وصول الحب إلى درجة الجنون. (منقول بتصرف) الحب كائن حي، مثله مثل جميع الكائنات، فهو روح وجسد، جانب منه حسيّ وآخر روحانيّ، الروح والجسد عناصر حميمة تدخل في صميم العشق، وحينما لا يكون هنالك هذان العنصران فنحن لا نكون أمام حب حقيقي، ولكن أمام مسميات أخرى، لست بصدد الكتابة عنها الآن. ولكن موضوعنا هنا الحب بشقيّه الروحاني والمادي، يقول الرسول عليه السلام: «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». فعاطفة الحب تبدأ بانجذاب الأرواح، وكما قال الإمام ابن حزم في كتابه الشهير طوق الحمامة: «أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع». ويقول أحد الشعراء: «كأنّ فؤادي ليس يشفي غليله، سوى أن يرى الرُّوحين يمتزجان». لكن الإشكالية الحديثة ليست في قضية الحب في أسمى تجلياته الروحية وهو ما يعرف بالحب الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون الفيلسوف اليوناني الذي عرفه بأنه التقاء كائنين في عالم المثل، وحينما نزلا على الأرض أخذ كل كائن منهما بالبحث عن نصفه الآخر المفقود، وإنما هنالك من جعلوا من قلوبهم فنادق! «أنا قلبي مساكن شعبية!» كما تقول أغنية المغني المصري محمد منير، أنا قلبي مساكن شعبية، وهي حتماً تعني معنى مغايرا عن الذي أقصده بالقلب الفندق! فكما هنالك أشخاص جعلوا من قلوبهم مساكن شعبية للفقراء والمساكين، هنالك من اتخذ من قلبه فندقاً أو نزلاً من كثرة ما عشق وأحب! وعلى النقيض من ذلك هنالك من جعل من قلبه معبدا لشخص واحد، ومنهم الشاعر أبو تمام الذي يقول: «نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، ما الحب إلا للحبيب الأولِ، كم منزل في الحي يألفه الفتى، وحنينه أبدا لأول منزل». فهل الحب هو الذي يصيب القلب مرة واحدة؟ وهل صدقاً أن القلب يعرف الحب مراراً وتكراراً؟ أو ماذا حينما يتحول الحب إلى لعبة شبية بلعبة الكراسي الموسيقية، حينما يتسابق المتسابقون جولة بعد جولة في الجلوس على الكرسي الأبقى! حينما تتداول القلوب كما الكراسي في هذه اللعبة. فما أحوجنا إلى كتاب آخر على نسج طوق الحمامة.. قد يكون طوق العصفورة أو أي كائن جميل يغرد حباً.