تراودني منذ زمن فكرة الكتابة عن التواقيع المدونة بعناية في زوايا السيارات وخلفياتها. تراودني تلك الفكرة التي تحاول أن تتأمل مسيرة المعاني التي كانت تدور بين التعابير الضائقة بالحياة أو التي تفيض ببعض خواطرها وهواجسها داخل أبيات شعرية أو حكم متوارثة، وبين الجمل المقتضبة التي يضعها شباب اليوم من خلال الصورة ومحاولة الانضمام للحدث. ذاكرتي تحتفظ بسيارة نقل كبيرة، رأيتها ذات سفر وخط طويل.. هندم سائقها بيتا شعريا قديما للأحيمر السعدي، وكتبه بخط ديواني منمق، على مساحة ظاهرة التعب من الحياة المحاطة بالبشر، مطلع البيت ومنتهاه، يقول: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطيرُ! لم أنس ملامح ذلك السائق، ولا حتى تفاصيل التفاتته حين حاولت تقديم الابتسامة المتعاطفة بشكل سريع وخاطف.. كذلك لم أكد أمر على تواقيع أخرى بذات العمق والعناية، إذ كثيرا ما ترتفع تدوينات متشابهة على نسق: على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب، وعشقت السفر من غدر البشر، ويا الله يا قلبي سرينا ضاقت الدنيا علينا. ولأن طبيعة الأشياء النمو، ومثل هذه الظواهر لابد لها من مرحلة انتقال وتبدل، تبعا للحياة وتصاريفها، باتت التعليقات تنحصر في مضامين لها عمر الوجبات السريعة.. ولا تكاد تظهر في الغالب إلا بجانب صورة تعبيرية محاكية للمعنى.. على شاكلة: مع نفسك، ومردك لي، وجامعي والحظ ما جا معي! التوابع التي يمكن تأملها من هذه المشاهد، سبق أن قادت عالم الاجتماع الراحل سيد عويس لأن يؤلف عنوانا مهما يرصد هذه الظاهرة في كتابه هتاف الصامتين، إذ قام بدراسة الكتابات التي تدون على هياكل السيارات، وربط بينها وبين حال المجتمع وصراعاته الفكرية والثقافية والاجتماعية، كل ذلك في سبيل الوصول للملامح الحقيقية من الداخل! وبظني أن مثل هذه الدراسات تمثل أصدق صورة حية للواقع الذي يدور بين فواصل كثيرة ضاحكة وباكية.