مع نهاية عام 1978 استيقظ العالم على كارثة بشرية وفاجعة إنسانية مروعة، حيث أقدم أكثر من 900 مواطن أمريكي على الانتحار بشكل جماعي عبر التسمم بمادة السيانيد السامة، ولم تأت هذه الحادثة من فراغ فقد كانت أسبابها وقتئذٍ هو تأثر الضحايا بفكر «جيم جونز»، الذي بدأ في التأثير على ضحاياه تحت ستار الإصلاح الذي يتمثل في نبذ العنصرية واسترداد الحقوق والرغبة في السلام، وقد استغل جونز الديانة المسيحية كمدخل لإقناع جمهوره بأنه رسول الرحمة والهداية للبشرية من غلواء أحقادها وضغائنها، وما لبث أن آمن بفكره المئات وقرروا الذهاب والعيش معه في مزرعة صغيرة محاطة بالغابات الوعرة في جيانا بأمريكا اللاتينية، على اعتبار أن هذه المزرعة هي المكان الذي سيتمكنون فيه من العيش بسلام بعيدا عن عالم الغاب الذي أوهمهم به جونز، ونجح جونز في الهرب من مطاردة الحكومة الأمريكية التي اكتشفت نواياه. وهناك ووسط رجاله وبعيدا عن الحكومة الأمريكية ظهر المدعو جونز على حقيقته وبدأ في إجبار الناس على الانصياع لأوامره وإلا تم قتلهم، ثم أقدم على قتل أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي وبدأت الولاياتالمتحدة في التخطيط للقبض عليه، عندها أقنع جمهوره المُضلَّل بأنه لا سبيل للإصلاح وأن الوسيلة المثلى للاحتجاج هي الانتحار، بعد أن أوهمهم أنهم جميعا مطاردون من الحكومة الأمريكية، فما كان منهم إلا الانصياع لأوامره، وقاموا أولا بحقن أطفالهم الصغار بالسيانيد قبل أن يقوموا بالانتحار جميعا بعذ ذلك، وغطت الجثث الأرض في مقطع مروع هز الضمير الإنساني عبر جميع أنحاء العالم آنذاك!. تلك الحادثة هي أحد نماذج السيطرة الذهنية للفرد على الجماعة ونموذج لاستغلال الدين في التغرير بالبشر، وربما عزاؤنا في تلك الواقعة أن الذين غرر بهم هم أشخاص بعيدون كل البعد عن الإسلام الذي يحرم الانتحار ويجرم الدعوة إليه، لكن وللأسف فإن أشباه المدعو جونز ظهروا بعد ذلك في دعوات تبطنت بحجة الإصلاح وخلف ستار الدين ودفعت بالعديد من أبناء المسلمين إلى التهلكة من خلال عمليات انتحارية تحت ذريعة الجهاد، إن الجهاد في الإسلام له ضوابطه التي يقرها ولي الأمر، وولي الأمر لا يتحرك طبقا لأهوائه الخاصة بل يزن الأمور بميزانها الحقيقي بعد مشورة علماء المسلمين وبما تحت يديه من أولويات وضوابط يراعي فيها القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية. عندما صدر الأمر الملكي بتجريم المنخرطين في الأعمال القتالية تحت ذريعة الجهاد فسر أولئك الذين أعطوا لأنفسهم ما ليس لهم وألزموا أنفسهم بما لا يحق لها أنه منع للجهاد، وإذا عدنا إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما سمحت المملكة وقتها للشباب بالجهاد في أفغانستان، فقد تبدى جليا للدولة عند انتهاء الأزمة ما كان يدور خلف الستار وما تم حوكه من وراء الكواليس، فالحرب التي هلك فيها من هلك من أولئك اليافعين كانت نتيجة انخراطهم في قتال دون وعي أو تدريب كاف، وكان أمراء جهادهم إما جهلاء أو خائنين ودفعوا بهم إلى معارك غير متكافئة، أما البقية منهم فقد عادت بفكر تكفيري متطرف انعكس في المقام الأول على المجتمع والبلاد. أكاد أجزم أن هناك الكثير ممن أطلقوا على أنفسهم - زورا وبهتانا - علماء وشيوخا يحملون في طياتهم أجندات خاصة هدفها الأول إحراج الدولة أمام بعض الأطراف الدولية، تماما كما حدث في هجمات الحادي عشر من سبتمبر عندما تم الزج باسم المملكة في الأحداث الإرهابية وقتئذٍ، ويجب علينا ألا نضع رؤوسنا تحت الرمال ونتجاهل الحقائق، فبالمجتمع فئات عديدة يكمن الشر في أعماقهم يعيشون حاقدين ناقمين على كل ما يدور حولهم بالمجتمع، يتربصون بالجميع ويتمنون لهم السوء، ولا يجدون مخرجا أو تنفيثا لأحقادهم تلك إلا من خلال إسداء النصائح المشبوهة أو تبني الدعوات المغرضة. إن دحض فكر دعاة أبواب جهنم هو مسؤولية كل مواطن ومواطنة يعيشون فوق ثرى هذه الأرض الطيبة ويتنفسون هواءها الطاهر، وفي الحقيقة أنا لا أراهن على عودة منابر الضلال إلى رشدها، لكني أراهن وبقوة على السلطة الرابعة وخاصة من فئة المثقفين والمفكرين الذين يتوجب عليهم فضح أزلام الشر، ونسأل الله العلي القدير أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا في زمن اختلطت فيه الأنوار والظلمات.