1 على افتراض أن الأنثى أكثر حساسية باللغة، بمفهومها الأيكولوجي الذي ينحاز للطبيعة كأثر نفسي وبنائي تتواطأ هدى الدغفق مع مفرداتها المتوترة غالبا، حتى تسوغ لذاتها أن تتمرد على حرية مقموعة من حولها، فلا يمكن أن تتنصل عنها بوصفها قالبا أنثويا متمرحلا في غائيته من منطلق النزعة الإيغوسنترية التي تعني الاستقطاب حول الذات، ومهما انفرطت عقدة المصير النسوي، إلا أن تجليات النص تستقطب كل المفارق والتناقضات؛ وباختزال بسيط لنصوص هدى ندرك أننا أمام نص يتشظى على الهامش بحسب الرؤية الفرويدية التي تستقصي أبعاد النص ثم تعيد تحليله بعد كشف لمدى حساسيته، ففي نصها (خيال يجف) تقول: «أنتقي ظلي فيجهل أنني من لحمه» وفي نص (فجأة) تقول: «على مهل تهشمت ظلمتها بأحجار الشمس.....» أما في نص (دائرة) تقول: «وردة قاسمتها خوفي ألوانها... اختلطت علي» بهذا التمرين الرومانسي تبدو أرستقراطية اللغة وعذوبتها المنسابة في جهات دون أخرى من النص ذاته، ففي الأمثلة الأولى نماذج شعرية تكاد تعلن جرسها الموسيقي وتتحرر بأفق نثري تسرده ثيمة معرفية غير متواصلة في ظاهر النص، ولكنها تهمس بوعي آخذ في استمراريته للحيلولة دون إرباك المتلقي بحسب نظرية هارولد بلوم، فالشعر حالة واستلهام ولا بأس بفواصل جمالية تزركش هيكل القصيدة النثرية التي تقبل الجنوسة والتلاقح مع أجناس إبداعية أخرى إذا كانت تضيف للنص وعيا دلاليا يتسع لدى المتلقي المغروس في قلب الحدث الشعري مهما استنزفت نثريته إذا كانت الصورة نهرية والمخيال اللغوي أس القيمة البنيوية للقصيدة، وهذا المعيار الإبداعي يبدو بمعاودة النصوص السابقة وفحص مقاطع أخرى لتتبعها، وأدل ذلك قصيدة (خيال يجف) لو أعدنا قراءتها وتفكيكها على انفراد، حيث تقول: « العيد يخرج للشوارع أدخل البيت الخلي أول الأعياد بعد أشرب الأزهار/ ترفضني..... أنتقي ظلي فيجهل أنني من لحمه وغزال أحلامي تواتر في التراجع حيث لاااا للشوارع... أدخل للبيت الخلي أعووود» إذا تناولنا النص ككتلة سنلاحظ مستويات القوة والتباعد في المعنى ودلالاته، وإن قل حشو الكلمات باعتبار قصر النص، فإن زوائد المعنى أو تشتته كبيرة بحجم المسافة بين الجمل الاسمية التي تتداخل في صورة ناقصة أو مبهمة وبين الجمل الفعلية الممتدة في الحدوث، ومحاولة إسباغ النص تحولات شعرية مستمرة تجعله مكتنزا بالصيرورة والدهشة مهما كان عمقه أو هلاميته. 2 تأتي صدمة التلقي لبعض المقاطع، والتي تمثل علامة فارقة في النسيج الشعري لتكوينات القصيدة لدى الشاعرة بغض النظر عن الترهل الناشئ من تجريب لغوي مكدود بالممارسة والوجع في قصيدة تعيد اختبار ذاتها على الأرجح، كما يرى هيدجر في تعددية المضامين حول سر الكينونة ومدلولها الغائم نسبيا في جدل مؤبد، إذ كيف يمكن للإنسان أن يخترع القوة التي تدعم في وجوده، وتمكنه من أن يكون حرا بلا وصاية أبوية.. فكل خطاب إنساني بالضرورة هو استجابة لوجود الكائنات والتماهي معها في زمن مشترك وتاريخ متراكم يلبي دواعي القيام في حضرة الحقيقة، وهذا تعريف مؤدلج للشعر وفق أطروحات الصوفيين، وهو تعريف صادم وجيد للاختلاف حوله، لذلك اتخذته عتبة ماثلة لقراءة نص (الجذر): «لا تعتزل أعمارك الأخرى ستمنحهم جدائل يصعدون بها إليك يجاوزونك... هيت لك لا ترتكب فرح البداية قاوم الأطفال فيك» إذا اتجهنا إلى غائية الشعر بمدارك أفلاطونية سنخلص إلى تجريد اللغة من فتونها وجمالها السيميائي، ثم نضطر لعزل الشاعرة خارج النص بمعنى طرد النرجسية عنه والثناء عليه، والادعاء أن الشعر خارج الكلمات، ولكن «لا تعتزل أعمارك الأخرى» كما تشي هدى الدغفق في خطابها الشعري الذي يتصاعد في وتيرة دون أخرى، فلا بد من التساؤل حول الوعي الشعري لديها.. هل يحضر بهيئة ما حين تتزاحم أسماء شعرية كبيرة ذات قوى مؤثرة في تجربتها كأنسي الحاج والبياتي ومحمود درويش والمعري مثلا، وبالتالي تقع في فخ الانسجام الروحي الذي يفرخ نصوصا هجينة أم الحالة الشعرية تتمايل في انحناءات واضطرابات متعددة، مما يجعلنا أقرب إلى التحليل النفسي منه إلى الحفر الابستمولوجي المعرفي لسياق القصيدة لدى الشاعرة، ولكن الحيرة تكمن في النصوص الشعرية القصيرة جدا، حيث تتكرر هذه الحالة، بل تكاد سمة نسقية في مجمل اشتغالاتها الشعرية. 3 لسنا بصدد تجريح النصوص وإلغائها، فكل نص مشروط بالتجربة له حق الصوت والاحتجاج على النبرات الخافتة/ المهادنة أو الفوضاوية على حد سواء، أو المكابرة أيضا في داخل النص وخارجه، ولنا أن نسائل المنجز ككل ومجابهة ظنونه وحتى هدم نواياه، لأن الكائن اللغوي مأخوذ بناصية القول في نقد متصالح مع اللغة والإبداع كثنائية تخطو بالشعر في رقصة تانغو. وبرأي الغذامي في كتابه (المرأة واللغة)، يقول: «المرأة التي كانت خارج اللغة سعت للدخول إليها والتلبس بها والانغراس في داخل الوجود اللغوي، ليس بواسطة الحكي كما كانت الحال فيما مضى، وإنما عبر الكتابة.....».. هكذا تكبر مهمة الشعر ويتجاوز أعباء المرجعية التي تعطل الفكر وتخذل سموه دائما، ويعد التعبير النسوي عن القيمة ونبذ التشيؤ تآلف اعتيادي ضمن فلسفة المتغير الثقافي التي تطال الثوابت أحيانا، كما نص (الباب العاشر للإجابة الثابتة): « سأموت من الجهل في أمة خانها الوعي بالنازلة! القلوب مغلفة/ والعقول مقيدة... كيف لي أن أقول: أبيض يا غد ؟» رغم كمية الوعي التي تكبح الصورة الشعرية هنا إلا أن تعدد الأفكار وتدوير الهواجس بقوالب متباينة؛ تخصب الشعر بالجدة والحلم معا. وإن صح مفهوم شخصنة النص، فإن هدى الدغفق كائن شفهي بالدرجة الأولى وما تقوم به من تحويل الكلام إلى الورق هو تنصيص للذات واستئمان للذاكرة حتى لا تخضع لمازوخية قاتلة «لست سوى امرأة تأكلها النوايا» حسب تأويل معرفي من نص (الزوجة). 4 لا يقل الهم في سياق النصوص عن غيره من التداعيات؛ إنه كجرف متسارع، ولذلك كما أسلفت تأتي الحمولات الاستعارية والأصوات المشتتة في الهامش بارزة، ما يوحي أنها في تزامن خفي مع نص عصي على الكتابة، لعله محفور منذ القدم في الوجدان كمشجب أزلي يبلغ أوجه في نص (العبء): «وحين ألتقي بها مبادئي. يقتص (...) كل خيط بيننا ألفظ الأنفاس أشعل الفتيل من جديد وحين ألتقي به (...) الذي نسيت في جحيمه مطامحي أقتص سرب أجنحة كانت تطير وأستعد أستعد للهبوط للأبد» لعل هذا النص بانفلاته وانعتاقه كصوت خارج الصوت يحيلني إلى مجازفة العناوين في نصوص هدى الدغفق للتعبير عن مكموناتها من خلال إيحاءات معبرة تكتمل بعد ختام القراءة ولا تكتمل حينما نتوقف عند عناوينها مباشرة، وكأني بها تتقمص قولا شعريا محايثا لما أريد حيث تقول «قبل أن ألبس العباءة/ نسجت روحي عباءة لدفتري»، وهذه مجرد توطئة لمحو المكتوب ومشافهة الشاعرة التي تمتطي حريتها خارج الأقواس، لتظل واقفة مهما انعرجت دروبها... نحن إذن مجبولون على خيبة النسيان والحضور المفترض حتى مع ذواتنا المشبوهة.