بدأت يومي بتناول قطعة جزر مخللة رائعة الشكل، والنكهة، والمذاق، والصوت أيضا (في طرقعتها). وللأسف أن هذه الحركة تمثل أحد مصادر المخالفات الصحية الكبيرة في حياتي. عندما التهم قطعة طرشي، مهما كانت صغيرة، تبدأ منظومة «طوارئ » كيميائية بداخلي بسبب الخل وما يسبب من رفع مستوى الحموضة، وتركيز الملح وما يسببه من عبء ثقيل جدا على كليتي الوحيدة. تبدأ حالة طوارئ تشبه إلى حد كبير هطول الأمطار الغزيرة على جدة. يرتفع تركيز الصوديوم في دمي وتسعى مجموعات من الذرات للتعامل مع ذلك التهديد لصحتي. ويشمل ذلك الشعور بالظمأ والبدء بشرب الماء لتخفيف أثر الإساءة للتوازن الكيميائي بداخلي. الشاهد أن المخللات لها من التأريخ ما يستحق وقفة تأمل لأنها لعبت أحد الأدوار المهمة في تشكيل الجغرافيا، والتاريخ، بل وحتى العلاقات الإنسانية في العالم. لو نظرنا إلى تاريخ الاستيطان البشري سنجد أنه تأثر تأثيرات جوهرية بوجود الماء والغذاء. ولعبت اكتشافات حفظ الغذاء أحد أهم الأدوار في الاستيطان، وبالذات في ظل عدم وجود آليات لتخزين الأطعمة سريعة العطب. لم تتوفر تقنيات التبريد وتخزين الأطعمة الطازجة إلى مطلع القرن العشرين، وكانت منتجات الألبان، واللحوم شاملة الأسماك، والفواكه والخضروات دائما معرضة للعطب السريع. وبمشيئة الله نجد أن المأكولات التي تكون الغذاء البشري تبدأ بمشيئة الله بالنباتات أو الحيوانات، وكل هذه النعم الجميلة تنافسنا عليها بلايين البكتريا التي تنتظر اللحظات المناسبة لتنقض على تلك النعم فتفسدها علينا، وخصوصا عندما يتوفر الدفء، والرطوبة، والأوكسجين، ودرجة الحموضة المعتدلة. وتراكمت عبر التاريخ تقنيات رائعة لتحويل الألبان إلى سمن، وزبدة، وأجبان. ولتحويل اللحوم الطازجة إلى لحوم مملحة، ومدخنة. وتحويل الفواكه الطازجة إلى مربات وفواكه مجففة. والخضروات إلى طرشي. فضلا تأمل في كمية التمور المجففة التي نستمتع بها سنويا وهذه إحدى أهم النعم الغذائية في حياتنا. وبعض الشعوب لها عشق عجيب، بل واعتماد أساس على المخللات، ففي كوريا على سبيل المثال ستجد أن «الكيمشي» Kimshi يمثل أحد أساسيات الغذاء الشعبية وهو أوسع انتشارا من الفول عندنا. وهو عبارة عن كرنب مملح ومشبعا بالخل. وفي أوروبا وبالذات في ألمانيا وبولندا ستجد «الساور كراوت» Sauerkraut منتشرا بنفس الطريقة علما والطريف أنه نفس المكونات وسبحان الله. كرنب مخلل بالملح والخل. وبعض أنواع المخللات عجيبة فهناك البيض المسلوق الذي يتم حفظه بهذه الطريقة لفترات طويلة، وهناك مخللات هي عبارة عن قطع من أجسام الحيوانات يتم وضع «تمويه» و»مكياج» عليها ليسهل أكلها وأفضل عدم الخوض فيها احتراما لشهيتكم بعد قراءة هذا المقال. وأما أشهر المخللات الخفية وأوسعها انتشارا فهي مخلل الطماطم أو بالأصح معجون الطماطم الذي يلتهمه العالم بملايين الكيلوجرامات سنويا وهو «الكتشاب» طبعا. جاء اختراعه في مطلع القرن العشرين في الولاياتالمتحدة ليغير علاقة البشر بالمخللات، بل وبمفهوم الخضروات والفواكه المخللة. وللعلم فالطماطم هي من الفواكه وليست من الخضروات من الناحية الفنية. أمنية بعد كل هذا الكلام لا أخفي عليكم حب البشر للطرشي بالرغم من اسمه الغليظ، وبالرغم من مؤثراته الشديدة على أجسامنا. ولكن شكله الجميل، وألوانه الزكية، ورائحته الفواحة الفاتحة للشهية، وطعمه الرائع يجعلون مقاومته صعبة جدا. وسبحان الله أن الطرشي يذكرنا ببعض الحكام العرب، فكأن عقولهم تكونت في زمان آخر وخرجت للعالم اليوم وهي محافظة على ذاكرة صور قديمة أكل عليها الدهر وشرب. أتمنى أن تتذكروا بعض هذه الروائع عند تناولكم للمخللات ... وبالذات الجزر. والله من وراء القصد.