هذا مقال سياسي ولكنه سيبدأ على السفرة: يمكننا الادعاء أنه من الصعب أن تجد له منافسا قويا لأن شكله غني ومليء بالإيحاءات القوية...لو تأملت فيه ستجده شبيها بالعقل الإنساني الذي يمثل أهم عضو في جسد معظم البشر... وستجد فيه أيضا اللفات العجيبة فكل ورقة مرصوصة وملفوفة بعناية من الخالق العظيم كأنها تحكي حكاية...ولكن الفائدة الكبرى من هذه النعمة هي في قيمتها الغذائية وسهولة زراعتها، ولذا فستجدها على السفر حول العالم بأشكال وألوان مختلفة...سلطة كرنب، وحساء الكرنب، ومخللات الكرنب المختلفة وخصوصا في الصين وهي الدولة الأولى المنتجة له، ثم الهند وهي الدولة الثانية، ثم روسيا، وأوربا... ولكن السيادة الأساسية على السفرة للكرنب ستجدها في المحشي العربي، فمهما حاولت الدول أن تتفنن في الإبداع الغذائي، لن تجد ما ينافس المحشي...وللأسف أنها أكلة معقدة وصعبة وكأن أحدهم بدأها بمعاقبة زوجته...عزيزتي اطبخي البصل، ثم الأرز...ثم اطبخي اللحم...ثم اطبخي الكرنب...والآن ضعي اللحم والأرز بتغليف محكم بداخل ورق الكرنب... بشرط أن يكون متماسكا... لا مؤاخذة من فاضي يفكر في ابتكار هذه الأمور؟ وهناك المزيد ففيزياء طبخ المحشي غاية في الدهاء، فاللحم والأرز يطبخان من الداخل بحرارة البخار الذي يصدر عن الرطوبة الهائلة المتولدة من أوراق الكرنب، ورصة المحشي تطبخ من البخار الشديد والذي ممكن أن يفوق مائة درجة مئوية بسبب الضغط المتولد بداخل «القدر»... فضلا خليكم معي فالهدف سياسي آت...طبعا لكل حضارة آليات إبداع مختلفة وكل واحد حر في سفرته، ففي كوريا مثلا يخللونه بطريقة عجيبة ويسمى «الكيمشي» وفي ألمانيا يخللونه ويسمى «الساور كراوت» ويعشقونه لدرجة أن كلمة «كراوت» كانت تطلق على الألمان خلال الحرب العالمية الثانية...وسأعود إلى الجانب الغريب للكرنب بعد 99 كلمة من هذه النقطة. في مطلع العشرينات الميلادية بدأت حملة جغرافية بريطانية برسم خرائط لفلسطين بهدف تقنين أسماء المناطق المختلفة، وبعد النكبة في عام 1948 تم استكمال هذا النشاط بجهود صهيونية بهدف «عبرنة» الأسماء العربية فحوروا الأسماء التاريخية تحويرا مخجلا...تكون الفريق اليهودي من تسعة علماء يهود في تخصصات الجغرافيا، وعلوم طبائع البشر، والآثار، والتاريخ وذلك لإزالة الأسماء العربية ولإطلاق أسماء عبرية على جميع الجبال، والتلال، والوديان، والطرق، في إقليم النقب... حولوا أسماء عربية صميمة إلى أسماء عبرية وكأن تاريخها موثق...تحول مثلا وادي الرمان في النقب إلى «امون» وتحول «وادي الردادي» إلى «ناهال رودد»...وتحول «أبو جرول» إلى «جورال» ومعناها القدر بالعبرية، وتحول «أبو روتا» إلى «روث» وهو اسم امرأة...وكانت هناك قرية صغيرة اسمها «كرنب» شرق القدس وغرب البحر الميت وجنوب بلدة «بئر السبع»، وطبعا أرادت اللجنة الإسرائيلية تغيير الاسم فاختاروا مجموعة أسماء مثل «سيروبيم» (الكرنب بالعبرية)...وناقشوا أيضا اسم «كارنوف» لأنها قريبة من «كرنب»...ومدينة «النجيف» نسبة إلى صحراء النقب... ولكن الاختيار وقع على اسم مدينة «دامونا» وهو اسم عبري ذكر في سيرة النبي «يوشع بن نون» في التوراة ...وبالرغم أنها مدينة صغيرة لا يتعدى عدد سكانها الأربعة وثلاثين ألف نسمة إلا أنها ذات شهرة عالمية فكانت مركز تطور التقنية النووية الإسرائيلية شاملة القنابل النووية. أمنية حرب الخطاب لا تقل أهمية عن باقي أنواع الحروب فمن خلالها يتم استخدام الكلمات لمحاولة ترسيخ معان مهمة لتخدم مقاصد وأهداف الأطراف المعنية المختلفة...أتمنى أن تدرك الأجيال الحالية والمستقبلية التزييف والتحوير في جغرافيا وتاريخ فلسطين، والعالم الذي عانى من التجارب الاستعمارية المختلفة...فضلا تذكر هذا الموضوع حتى لو لم تكن من هواة الكرنب، وتذكر أن القرية الفلسطينية الوديعة قد تحولت تحت الاحتلال إلى أحد مصانع أسلحة الدمار الشامل التي تهدد ملايين البشر. والله من وراء القصد. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 122 مسافة ثم الرسالة