ذهبت ذات مرة إلى حضانة أطفال لزيارة صديقتي التي تعمل هناك – وبينما كنت أنتظر خروجها وقد قارب اليوم الدراسي على نهايته – وقفت إلى جانبي إحدى أمهات الأطفال التي كانت تنتظر طفلها وأخذت تتحدث مع إحدى المربيات والتي كانت تنتظر طفلا آخر. كنت أفكر في شيء آخر مهم فلم أكن في بداية المحادثة ولكنني فجأة سمعت السيدة تسأل المربية: «ليش مستر تبع انتي طلق مدام؟». طبعا لم أصدق أذني في البداية واعتقدت بأنني سمعت خطأ. ولكن السيدة ظلت تلح على المربية بالسؤال - بلجاجة غريبة وهي تكسر بالكلام لتحاول إفهام المربية قصدها: « يعني معقول انت ما تعرفي ليش مستر طلق مدام؟ كيف مستر ياخذ أولاد ويطلق مدام؟ يعني هو مستر يعرف ينتبه للأولاد؟ يعني مدام ما في اهتمام بالبيت كويس؟ ولا مستر سوي سفر كثير ولا ايش مشكلة؟». كانت المربية المسكينة في حالة واضحة من الضيق والإحراج – ولكنها ظلت في الحقيقة مصرة على عدم الإدلاء بأي رد وكررت «أنا ما أعرف شي!» ولكن السيدة لم تكل ولم تمل وأخذت تسرد على المربية جميع أنواع سيناريوهات الطلاق التي مرت عليها: «مستر ما في يصرف كويس على البيت؟»، «مدام تروح عند أهل تبعها كثير؟»، «مستر يروح استراحة؟»، «مدام سوي نوم للعصر؟»، «مستر فيه اثنين تلفون؟»، وتعمقت الأسئلة لأبعد من ذلك ولكنني سأتوقف هنا. لا أعرف بم أصف الموقف؟ والحقيقة أن المربية أبلت بلاء حسنا في الصمود ولم تجب إلا بأنها لا تعرف شيئا. ولكنني في الحقيقة أصبت بحالة من الاشمئزاز لما سمعت ورأيت. وخاصة بأن التحقيق الفيديرالي استمر حتى بعد أن خرج الطفل من الصف وهنا كانت الكارثة العظمى – فقد تأثر الطفل كثيرا كما هو متوقع حينما سمع الموضوع ورغم صغر سنه – فهو ربما لا يتعدى الخامسة – إلا أنه من الواضح من ردود فعله أنه متألم جدا من هذا الموضوع. والحقيقة أنني احترمت المربية التي أبدت الكثير من الإنسانية تجاه الطفل فأخذت تحتضنه وتتحدث معه متجاهلة أسئلة المدام – التي من الواضح أنها لا تفقه شيئا إلا حمل الحقائب «السينييه» والنظارة الماركة والحذاء الفخم ويقف حدود فهمها للعالم عند ذلك فقط. ولا يخطر ببالها نفسية الطفل الصغير الذي من المؤكد بأنه يعاني أشد أنواع العذاب النفسي من فقدان أمه بالبيت فتزيد عليه حضرتها الإحساس بالمعاناة لتهينه أمام الناس – لتشبع فضولها بأنانية مطلقة وجهل مقرف. حينما رأيت المربية المسكينة غير قادرة من التملص من أسئلة المدام الشريرة – ناديت الولد الصغير وقلت له بأن صديقتي – معلمته - تريده. وضعت يدي على كتفه الصغير برفق ومشيت معه للفصل وقلت لصديقتي اتركيه قليلا إلى أن تذهب هذه السيدة. لا أعرف ماذا أقول ومن أين أبدأ؟ فأولا – من أجمل وأبلغ وأرقى مفاهيم الإسلام أنه نهانا عن الفضول. قال رسولنا الكريم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». فجعل ترك الفضول من تمام وحسن وكمال الدين. وثانيا: لا أعرف لم يعامل بعض الناس الطفل وكأنه كائن معاق أو متخلف أو معتوه غير قادر على الإحساس أو الشعور بالألم والمهانة والحرج والحزن – ليس مثلنا تماما – ولكن أضعافا مضاعفة مقارنة بالكبار. الطفل كائن رقيق حساس يرغب بأن يكون محبوبا ومثاليا ومقبولا ومحترما وآخر ما يريده أي طفل خدش صورته أمام الناس والتعرض له أو لوالديه بأي إشارة فيها تقليل للاحترام أو اختراق للخصوصية أو فضح لأسراره أمام الناس. وأخيرا – من هذا الموقف ومن غيره – يتضح لنا بأن قيمة الإنسان الحقيقية ليست في درجته الاجتماعية أو المادية – فالمربية ذات الرداء المهلهل والحذاء العتيق – أثبتت رقي إحساسها ونبلها حينما رفقت على الطفل الصغير لتهبه جرعة حنان في عالمه المليء بالقسوة. فإذا كان ترك الفضول مع الكبار من أهم مميزات المسلم الحسن والإنسان الفاضل مهما كانت معتقداته – فإن تركه مع الأطفال أولى بمرات عديدة – لرهافة إحساس الطفل وسهولة جرح نفسيته فيجب علينا الحفاظ على كرامته ونفسيته أمام الناس سواء كانوا كبارا أم صغارا. أتمنى أن نرتقي بحواراتنا مع أطفالنا خاصة المحرومين من حنان الأم أو الأب أو الذين يعانون من أي مشاكل أخرى لأي سبب كان – ففيهم ما يكفيهم.