لم تكن القلمون لتحظى بذلك الاهتمام في الإعلام الدولي قبل الثورة السورية وتحديدا قبل أشهر فقط، فأكثرية الناس عربا وعجماً لا يعلمون «بالقلمون» في سورية، ولا يعرفون الطريق إليها، إلا أنها وبين ليلة وضحاها باتت تجتذب الأضواء الإعلامية، وتستلفت الأنظار من كل حدب وصوب وباتت قراها على كل شفة ولسان، هنا معارك طاحنة، وهناك غارات جوية مركزة، وهنالك حركة نزوح لا يمكن وصفها. منطقة القلمون هو الاسم الذي يطلق على المنطقة الممتدة من جبال لبنانالشرقية وسلسلة الجبال الغربية السورية غرباً إلى بادية الشام شرقاً، ومن سهول حمص شمالاً إلى دمشق جنوباً، إنها منطقة شاسعة الاستراتيجية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ولعل في ذلك تكمن سر المعركة الضخمة التي يخوضها الجيش السوري الحر والثوار ضد جيش النظام السوري وحلفائه وعلى رأسهم حزب الله اللبناني. «عكاظ» قصدت القلمون بقراه ومدنه فجالت على خطوط التماس وعاينت الأضرار والتقت الشهود المغيبين على معارك القلمون وقصصها، من قارة إلى يبرود مرورا بالنبك فكانت تلك الحكايات. أنهينا رحلتنا في قرى القلمون بجولة في قرية الجراجير، وانطلق بنا الموكب من موقع عسكري سابق للجيش النظامي حرره الجيش الحر، واتخذه موقعا له على بعد عشرة كيلو مترات من الحدود اللبنانية وتحديداً في بلدة عرسال. أصر مرافقونا في الجولة بعد الوصول إلى الموقع على توديعنا بفنجان شاي، ودارت بيننا وبين الثوار وعناصر الجيش الحر أحاديث عن مشاهداتهم، وبدأنا بحزب الله.. فقالوا لنا جلسنا نترقب حركتهم وأحاديثهم والأمور التي تشغلهم، وكيف يمضون يومهم خاصة وأنهم كانوا مرابضين في أحد المواقع بانتظار الانتقال إلى جبهة أخرى، وبادر أحد الثوار بالحديث وكأنه يجيب على سؤال لم يوجهه له أحد «يا أخي جماعة غريبة، لم نر غير الحقد من قبل حزب الله ومقاتليه، كل الشعارات التي يرفعونها طائفية وحاقدة، وعبر الحقد يجندون شبابهم للقتال... يبتسم أبو عثمان ويرفع عيناه باتجاهنا ويقول: اسمعوا.. اسمعوا.. سأفتح الجهاز، إنهم ينادون بعضهم على اللا سلكي ب«كربلاء 1– كربلاء 2».. وبينما كان أبو عثمان يتحدث كانت الطائرات تغير على دير عطية، فطالت الجلسة بانتظار انتهاء الطلعات الجوية حتى نتمكن من مواصلة سيرنا، وهنا طمأننا أبو عثمان بقوله: هذه الغارة لن تقوم بأكثر من رمي برميل واحد.... فوجئنا بهدوئهم وحاولنا أن نتحلى أو نكون على بمستوى الهدوء ذاته، فقد أعلمونا قبل دخولنا إلى القلمون أن كل شيء آمن ومؤمن إلا الغارات، ربما لن نكون بمأمن منها. جبهة النصرة وداعش عاد الحديث مرة أخرى عن حزب الله، وروى لنا رفاقنا عشرات القصص وطرحوا عشرات الأسئلة، بيد أن الجميع بات على قناعة بأن جل ما يريده هذا الحزب هو خطف الطائفة الشيعية ولو كان الثمن موتهم في معارك غيرهم.. حتى وصل بنا الحديث إلى «جبهة النصرة وداعش»، وهنا سألنا كما هو حالنا في كل مرة ندخل فيها الأراضي السورية عن هذه الفصائل، عددها وأماكن تواجدها في القلمون، وطريقة التعاطي أوالتنسيق معهم.... وأجاب أبو عثمان بقوله: علمنا بوصول عناصر من جبهة النصرة إلى المنطقة لكن لم نلتق بهم ولم نعرف أين يقاتلون؟، فالقلمون كما ترون قرى ومدن وجبال من الرمال. وحول عمليات القتال التي وقعت في بعض المناطق بين داعش والجيش الحر قال: سمعنا هذه الأحداث، لكننا لم نواجه مثلها هنا، وأتوقع أننا لن نواجه مثل هذه الأحداث، فنحن من أبناء القلمون ومنخرطون في الجيش الحر، وعندما ننتهي من دحر نظام الأسد من هذه القرى سنبقى هنا لحماية الأهالي والأطفال والنساء. وأضاف أبو عثمان: بعد ثلاثة أعوام من القتال ضد النظام والميليشيات الشيعية الإيرانية والعراقية واللبنانية، شكلنا ألويتنا الخاصة وكل حسب تواجده لتأمين استمرارنا وتواجدنا في كل المناطق. لا يمكن أن نتجمع كلنا في الغوطة مثلا أو في إدلب ونترك القلمون، فقد قسمنا أنفسنا كل بحسب قريته ومدينته، ونقاتل فيها حتى تحريرها، وبعدها نبقي أغلب الشباب للحماية ويذهب عدد قليل منا لنصرة مناطق أخرى إذا استدعت الحاجة. قصف مركز إمداد المياه لحظات من الصمت، إذ وصل إلى أبوعثمان نداء عبر الجهاز بضرورة تحركنا من المكان، ومن دون أية أسئلة منا، تحركت السيارات رباعية الدفع بسرعة كبيرة، واعتقدنا أن شيئا ما حدث أو سيحدث، حتى وصلنا إلى مرتفع ينتظر فيه ثلاثة شباب... هنا فقط سألنا أبو عثمان مالذي جرى؟ فقال إن نظام الأسد ألقى برميلا على مركز إمداد مياه الشرب إلى قرى ومدن القلمون.. وقد سرنا باتجاه المرتفع لمعاينة الحفرة التي خلفها البرميل وعلمنا أن العمق الذي أحدثه القصف كسر القساطل الرئيسة، وأن القلمون ستعيش لأيام بدون مياه. شبان القلمون أو شبان الجيش الحر، كانوا يتابعون أي شكوى أو مشكلة، وأي سيارة تحتاج لمساعدة، هم في حركة لا تهدأ، نجلس عندما يجلسون ونمشي عندما يسيرون، رابضنا معهم، وتحركنا معهم، واستمعنا لأحاديثهم، لم يطلبوا شيئا من الخارج، ولم ينتقدوا أيا من أعضاء الائتلاف المعارض، هم على قناعة أنهم بدحر النظام وإجباره على إعلان هزيمته، فإن ذلك هو النصر لسوريا، وما سيحدث من بعدها أمور سياسية، والسياسة إن بدأت لا تنتهي، هم يعرفون أنهم في مهمة مؤقتة. يوم في القلمون لم يكن ليشبه باقي الأيام في القرى السورية، والعجلة هنا ضرورة يقول أبو عثمان، فالشمس ستباغتنا إلى المغيب، والطريق إضافة لوعورتها ستزداد صعوبة وخطورة...تنطلق بانتظام وبسرعة واحدة باتجاه الحدود اللبنانية. انهمرت الرسائل والاتصالات على أحد المرافقين، فعلمنا أن التغطية عادت للهواتف الخلوية فقد استغرق غيابنا عن التغطية أكثر من عشر ساعات. فأجاب: نعم نحن بخير، فيما خففت السيارة التي نستقلها من سرعتها لتتوقف أمام آلاف السوريين، حينها أدركنا أننا في بلدة عرسال. عرسال لا تسأل السوريين عن الهوية نزح إلى مدينة عرسال اللبنانية منذ بدء الثورة السورية حوالي سبعين ألف نسمة - حسب ما أبلغنا أحد شيوخ المدينة، الذي أكد أن الرقم مرشح للزيادة.. سألنا الشيخ الخمسيني: كيف تمكنت المدينة من استيعاب كل هذه الأعداد؟ فيبتسم ويجيب بهدوء وهو ينظر إلى سبحته: هناك وحدة حال بين القلمون وعرسال، وهي سلاسة الانتقال بين الأراضي السورية والأراضي اللبنانية عبر مدينتنا، فعرسال معبر سهل على السوريين حيث لا ندقق في أوراق الهاربين ولا نوقف النساء والأطفال ولا نسأل الشيوخ عن دين أو طائفة.. أبواب عرسال مفتوحة لكل السوريين، استقبلناهم في بيوتنا، وقدمنا لهم طعامنا، وأخذناهم إلى مشافينا، ولم نسألهم إلى أي طائفة ينتمون؟ السوري الهارب تراه اليوم لا يهرب فقط من النظام وجوره وظلمه، بات إنسانا هاربا من كل سؤال يمكن أن يدينه.. إلى أي طائفة أو مذهب ينتمي! لقد زرع النظام المذهبية والطائفية في ليلة وضحاها في نفوس شعب بكامله. هذا النظام لن يترك سوريا إلا وقد بث كل سمومه فيها.