لم تكن القلمون لتحظى بذلك الاهتمام في الإعلام الدولي قبل الثورة السورية وتحديدا قبل أشهر فقط، فأكثرية الناس عربا وعجماً لا يعلمون «بالقلمون» في سورية، ولا يعرفون الطريق إليها، الا انها وبين ليلة وضحاها باتت تجتذب الأضواء الإعلامية، وتلفت الانظار من كل حدب وصوب وباتت قراها على كل شفة ولسان، هناك معارك طاحنة، وهناك غارات جوية مركزة، وهنالك حركة نزوح لا يمكن وصفها. منطقة القلمون هو الاسم الذي يطلق على المنطقة الممتدة من جبال لبنانالشرقية وسلسلة الجبال الغربية السورية غرباً الى بادية الشام شرقاً، ومن سهول حمص شمالاً الى دمشق جنوباً، انها منطقة شاسعة استراتيجية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ولعل في ذلك يكمن سر المعركة الضخمة التي يخوضها الجيش السوري الحر والثوار ضد جيش النظام السوري وحلفائه وعلى رأسهم حزب الله اللبناني. «عكاظ» قصدت القلمون بقراه ومدنه فجالت على خطوط التماس وعاينت الأضرار والتقت الشهود المغيبين على معارك القلمون وقصصها، من قاره الى يبرود مرورا بالنبك فكانت تلك الحكايات. بعد قارة سيأتي دور يبرود.. هذا ما قاله أحد القادة الميدانيين في الجيش السوري النظامي.. وإلى يبرود عاصمة القلمون، اتجهت «عكاظ» عشية المعركة أو الاقتحام الموعود.. ولعل ما يميز يبرود عن غيرها أنها مدينة قديمة قدم التاريخ، قصصها لا تنتهي، تبدأ من زنوبيا ملكة تدمر التي كانت تصطاف فيها لجمال مناخها في الصيف، وتنتهي مع بطليموس القلوزي الذي استوطن فيها عاشقاً لأوديتها ومغاورها فكتب عنها ما لم يكتب. أهمية يبرود التاريخية لا تلغي أهميتها الدينية والاجتماعية، فهي نموذج للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين فنحو 65% من سكانها الثمانين ألفاً من المسلمين والباقي من المسيحيين، كل ما فيها يعتمد على المطر لذلك فإن إنتاجها الزراعي متميز فقمحها غير كل القمح، وكرزها لا يشبه الكرز..وهي مدينة لا تشبه بقية المدن. عبر طريق وعرة وبرفقة أمنية من الجيش السوري الحر عبرنا الطريق الجبلي عبر قرية سحل السورية باتجاه يبرود، إذ أن الوصول إليها يغري كل اعلامي، الكل يتحدث عنها وعن المعركة المرتقبة فيها، طريق يكاد الموت يكمن في كل زاوية من زواياها، فالعقيد أبو ثائر من الجيش السوري الحر ، طلب منا الحذر طوال الطريق فالخطر يأتي من طائرات النظام، معظم الشهداء سقطوا بهذه الطريقة عندما استهدفت الطائرات الحربية سياراتهم، مضيفا «نحن نطلي السيارات العسكرية بالطين». هنا..يبرود في الطريق الوعرة حيث الحجارة والرمال عبرت بنا السيارة العسكرية ذات الدفع الرباعي بسرعة جنونية لنشعر بخطر يضاف الى الخطر الذي ذكره أبو ثائر ، إلا أن الدقائق تمر والاطمئنان يدخل قلوبنا، هم حافظون لتلك الطرق ومدركون لكل حجرة فيها ويعرفون ماذا يفعلون. بعد نحو عشرين دقيقة وعبر الطرقات الوعرة وصلنا الى يبرود، ولعل ما يلفت النظر أن في كل حي مسجدا ولكل مسجد نصيب من قذائف نظام الأسد.. يحدثنا «مفيد» وهو مقاتل من أهل يبرود قائلا: كل يوم لدينا حصة من القصف الصاروخي الذي تمارسه قوات النظام السوري، لكن أهل يبرود اعتادوا على هذا العدوان، بل إنهم يتسابقون للاحتفاظ بالصواريخ للذكرى ... الطائرات لا تفارق سماء يبرود، والمخبرون يقدمون تقاريرهم بشكل دوري لتصل الطائرات بعد دقائق مستهدفة سيارة أو منزلاً او اي شيء متحرك. ويضيف: يريدون أن يقتحموا يبرود فليفعلوا، نحن ننتظرهم في كل شارع وفي كل بناية، إنها يبرود لا تشبه احداً ، وعلى حزب الله ان يقدم مئات القتلى قبل أن يتمكن من الدخول ، وعلى بشار الأسد ان يفكر كثيرا وكثيرا جدا قبل ان يرسل رجاله الينا. ..كل شباب المدينة مسلحون وجاهزون للقتال والجيش الحر من أبناء المدينة وعازمون على الصمود بل والانتصار. تجارة المازوت نغادر مفيد ونتجه باتجاه الساحة الرئيسة في يبرود، مدينة تتحرك بخجل، طلاب عائدون من مدارسهم كأنهم قد رموا الحرب والمعركة القادمة خلف ظهورهم، فيما محال تجارية كانت أجرأ من غيرها، فتحت ابوابها طلباً للرزق ، إلا أن تجارة طارئة قد أتت الى المدينة مع الحرب، هي تجارة المازوت... فكثير من الناس يتاجرون فيه لكثافة طلب الناس عليه، فهو تستعمل للآليات الزراعية وللتدفئة في فصل الشتاء الذي يمر قاسيا على المدينة. أحد تجار المازوت من يبرود ويدعى (فارس) قال ل«عكاظ»: منذ عدة اشهر ومادة المازوت قليلة في المدينة ، ونحن نعتمد في شرائها على بعض تجار السوق السوداء.... وهي تأتي من ادلب او من الرقة، ونقوم ببيعها لنؤمن الطعام لبيوتنا... أرباحنا قليلة ونحن لا نستغل الناس لأنهم أهلنا. ويضيف «أصبحنا كتجار مازوت هدفاً للطائرات الحربية، هم يريدون ان يعم اليأس في قلوب أهل المدينة، لكن ابدا لن يحدث ذلك، فأهل يبرود يجيدون التعامل مع مثل هذه التهديدات». ويقاطعنا قاسم وهو زميل فارس في تجارة المازوت بقوله: لاشيء يباع أو يشترى في المدينة غير المواد الغذائية والمازوت، إذ أن60% من أهلها غادروها الى مناطق اكثر أمنا خاصة في الأسبوعين الأخيرين عندما بدأ النظام يتحدث عن اقتحام يبرود، وهو ما أدى إلى تراجع تجارتنا كثيراً، غير أننا مصممون على الاستمرار لأنها المصدر الوحيد لجمع المال، كما انها تساعد على صمود مدينتنا. استهداف المستشفيات من ساحة يبرود توجهنا إلى المستشفى الرئيس فيها للقاء الجرحى، إلا أننا تفاجأنا بيافطة كتب عليها «المستشفى مقفل بسبب الصيانة»، ولم نجد من العاملين إلا الطبيب أبو محمد كما عرّفنا بنفسه رافضاً التقاط أي صورة له فهو معروف من قبل النظام المجرم في سوريا، أبو محمد روى لنا قصة المستشفيات في يبرود فقال: قصف يبرود مستمر منذ ما يزيد على العام وبشكل يومي ..ودائماً المستشفيات والمساجد تأتي على لائحة الاستهداف لعمليات القصف البري والجوي.. وقد تعرض المستشفى الرئيس في يبرود ثلاث مرات للقصف وبات وجودنا فيه يشكل خطرا على العاملين من أطباء وطاقم تمرض، ومرضى من مصابين وغيرهم ، خاصة وأن معظم قرى القلمون تقصد مستشفيات يبرود للمعالجة. ويضيف الطبيب ل «عكاظ»: قمنا بنقل المعدات الرئيسة وبعض الأسرة وأعددنا مستشفى حربيا لمعالجة الجرحى ..هذا المستشفى نحاول ان نبقيه سرياً خوفاً من تعرضه للقصف والاستهداف بالطائرات، متوقعا أياما سوداء وقاسية خلال الفترة المقبلة. الحي المحروق ومن المستشفى أصرّ مرافقنا ان يذهب بنا الى حيّ الجامع كما يسمونه، فتوجهنا من هناك الى الحي لنفاجأ بالدمار الكبير الذي اصابه .. وقال لنا «برهان» وهو من عناصر الجيش الحر إن هذا الحي شهد غارات مكثفة طوال اسبوع كامل من الطائرات والمدفعية، وسقط فيه العشرات من الشهداء ... واضاف أن النظام كان يعتقد أن التظاهرات في يبرود كانت تخرج من هذا الحي، فعمد إلى إحراقه عن بكرة أبيه، وهناك عائلة قتلت بأكملها خلال القصف ومعظم أفرادها من الاطفال والنساء...كل شيء في حي الجامع محروق، الحجر والشجر والسيارات، فيما أهله غادروه مخلفين وراءهم رائحة الموت تعبق في كل الأرجاء. من يبرود خرجنا باتجاه «النبك وفليطة والجراجير» بيد أن صورة يبرود لم تغب عنا، تلك المدينة التي تضرب في التاريخ لتتحدى المستقبل وكل الغزاة الذين سيأتون للنيل منها.