قبل العيد بليال وقف أبي يتأملني بشفقة وأنا أحث غنمي قليلة العدد كي تلج للمبيت وألقى على مسامعي كلمات البشارة قائلا: غدا السوق وسأريحك منها ومن شقاها.. وأتبع باسما: وسأجعل المشتري ينفحك بعشرة ريالات سياقة عند إتمام عملية البيع. وكأنما قرأ ما يدور في خلدي من شكوك وأضاف: وإذا رفض أن يمنحك شيئا سأدفعها لك أنا من قيمة الغنم، وأتبع ذلك بإشارة من يده بأن وضع إصبعه السبابة على أرنبة أنفه وهمزها قليلا نحو الأسفل. توقفت صامتا أرتهش ودموعي تسح فرحا وتسابق القطرات المنسكبة من الإبريق الذي يحمله وهو يتهيأ لصلاة المغرب، فأشاح بوجهه عني كي لا يقر بضعفي وكي يعلمني معنى الصبر والتحمل ويهيئني ربما لخيبات قادمة. لم أنم ليلتي تلك وجعلت أعيد وأكرر في صور وخيالات لذلك الحدث المنتظر، فتنتظم الصور كطوق دائري يشغل الفضاء المحيط بي وتدور حولي كالدوامة وأنا مأسور في إطارها لا أستطيع منها فكاكا. أتخيل صورة مفترضة لوجه الرجل الذي سيشتري الغنم وهو ينصاع لرغبة أبي في دفع القيمة التي نريد وأتخيل يده وهي تمتد نحو (الكمر)* المزخرف بالخرز الملون وتستخرج الدراهم وكفه وهي تعد القيمة وتدفعها ليد أبي ثم نظراته المسكوبة على وجهي وقامته وهو يتقدم نحوي وأنا أقف في طرف متكئا على عصاي التي كنت أهش بها على الغنم وهو يدفع في كفي بالعشرة، بينما يرفع صوته قائلا: وهذه سياقة الراعي الصغير. ثم لا تلبث الصورة أن تضمحل وتكاد أن تتلاشى فأستنجد بخيالي فيعيد رسمها على عجل مع إضافة بعض التفاصيل والرتوش، كانصرافي بعد إتمام الصفقة وتوديع (غنماتي) وإلقاء العصا التي لم أعد بحاجة إليها وانعطافي مرحا نحو المباسط كي أبتاع منها بعض ما أريد. بينما تنوس هناك في زاوية من الصورة الضبابية للحلم وكخيار أخير ومهمل صورة لوجه أبي وتقاسيمه المريحة وهو يضع إصبعه السبابة على أرنبة أنفه ويهمزها قليلا كضمانة أخيرة لإنجاز ما وعد. وفي صبيحة يوم السوق وقبل طلوع الشمس، نفضنا الغنم وجعلنا نحثها وندفعها نحو غايتنا فتنطلق بغريزتها نحو الطريق التي أسلكها بها للرعي صبيحة كل يوم وقد ضجت بالثغاء فأنطلق أحدوها بهمة عالية رافعا صوتي الصغير بأصوات تخويف مبهمة لا تخلو من فرح. وقفنا في جناب سفح يشرف على السوق، حيث يقف الجلابة أصحاب المواشي في مكان قدر أبي أنه الأنسب دون جميع الأماكن، لأنه كما قال يقع في المقدمة وظاهر للعيان. اكتظ الناس بالسوق وما بين الفينة والأخرى يند منهم واحد ويتجه نحونا، يسلم ويتجاذب أطراف الحديث مع أبي ثم يهوي بيده يتحسس ظهور الغنم وأطرافها ويسأل عن القيمة التي دفعت فيها. على باب الله يقول أبي ويضيف ما جانا (سوم*) اليوم. ثم لا يلبث الرجل إلا يسيرا ويتحول إلى جارنا، وعلى الفور تجتاحني كآبة وأنا أجوس حولها وأهش عليها بعصاي كي لا تختلط بغنم الآخرين. ثم لا تلبث كآبتي إلا يسيرا وتتبدد كسحابة صيف عندما يقدم آخر، ثم تعود وتجثم على صدري مجددا عندما يتولى عنا مغادرا. عندما أوشك السوق أن ينفض والخيبة تكبلنا وتثقل كاهلي على وجه الخصوص. تقدم أحدهم وشرع يفاوض أبي و(يكاسر) في السعر ويعطي ثمنا بخسا مستغلا في ذلك الحاجة التي طغت على ملامحنا وانصراف معظم الناس واقتراب ليلة العيد. تجمع آخرون من حولنا وجعلوا يحثون أبي على إتمام البيعة ويصيحون به كي يوافق ويضعون كفه قسرا في كف الرجل الذي بدا منتشيا ينتظر ربحا بات منه وشيكا. نظر أبي إلى وجهي وأدرك رغبتي الخفية في البيع فنطق بحزم وبنبرة لا تخلو من أسى قائلا: بارك الله لك عد الفلوس يا رجل. دفع الرجل كامل المبلغ ووجهه يتهلل فرحا بينما نكس أبي رأسه وشرع يعد الدراهم بنفس غير راضية. عندما انتهى من العد، تقدمت بقامتي الصغيرة وسط غنمي وصرخت بصوتي الواهن أمام الجميع قائلا وموجها حديثي للمشتري: أريد (سياقتي) أريد العشرة. رفض الرجل بإصرار أن ينفحني ريالا واحدا وتناول العصا من يدي وجعل يسوق الغنم بهمة نحو ديرته. أحسست بخيبة تفيض بها جوانحي وانصرفت على عجل أتقدم أبي عائدا نحو قريتنا أخفي عنه عبرة ساخنة تكاد تسبق خطواتي المتعبة. وقبل أن نغادر أطراف السوق الذي أوشك أن يخلو إلا من بعض الباعة من القرى المجاورة.. لحق بي أبي وأخرج من حزامه عشرة ريالات ودسها في راحة يدي برفق.. قائلا: هيا الحق السوق وسأنتظرك هنا حتى تعود. مضيت مسرعا واشتريت بها قليلا من بلح ومزمار أخضر وأصفر وله مبسم أبيض وعليه صورة جمل وحلاوة نعناع لها لون القمر واستدارته الفاتنة. *السياقة: مبلغ يسير يدفعه المشتري للراعي. *الكمر: حزام جلدي ذو جيوب. *نجلب: نعرض. *سوم: عرض.