حينما تفتح عينيها، يكون كل الأولاد قد وصلوا. الشمس ساطعة والبرحة واسعة، تطالها عيناها. حينما ترسلهما أسفل «الطاقة»، تملأها رعشة. تغلقها. شحوب ضوء العصر يغمر المكان، فيبدو كبيت مهجور تختبئ فيه الجن، هاربة من بهجة الأولاد. يتناثر رذاذها في منعطفات الأزقة الكابية، مذ غادرتها الشمس، وغدت فوق الأولاد قبل انسحابها، مفسحة الطريق لبدر تعلى. يصفف شعره، يخلق ابتسامات عجيبة، عيناه تجوسان الطريق، وما تبقى من رائحة الملوخية، وظهيرة طليت بثوم يتبخر حزنا، يهرب من كآبة عصاري الأزقة ليحلق في سعة البراح. (يا واد ألحقني ومعاك الصفيرة). صوت وحيد كان آخر ما ينسل من أشد الأزقة عتمة.. كنداء أخير. لم تكن صافرة «عم هلال العسة» فقد هجرها منذ سنوات يصعب تذكرها، وصار يتجول أو يقف على ناصية الشارع العام. يختار موقع عربته بعناية، ليصطاد أغلب المارة ويبيعهم (حبحب على السكين)، وأحيانا يخالطه بالخربز (سكري يا بلاش). يترنم بها بشجن جاذب، تزيدها إشراقا، بسمات تندلع حوله، من المارة والعابرين، يرصد نوافذ تمارس يومياتها مفتوحة على الهواء، فتمتلأ روحه بالحكايات. يحيلها إلى غناء مستمر، وإن استعصت حكاية ولم يغنها يحيلها إلى كسرة يترنم بها منشرحا مع شمس آخر النهار، وحوله نفر من سائقي التاكسي والجزارة والسمانة والخرازة يجاورونه في المقهى، والذين يعن لهم دعوته لدور «دانة» أو «صهبة»، أو مجس، يجسد فيه لوعة حاصرتها أزقة تبدو في عيني العاشق أقبية. هلال ينخرط في الدور، غفلت عيناه عن أوضح زقاق، يبث بخفوت أصوات عجزة أنهكتهم الأيام، ما زالت تظلله بقايا شمس، وخرج «عبده دناقش» يرطب التراب برش الماء، أمام دكانه، فيما الحجة صفية تصطفي، مما تناثر حولها من قلائد لوزِ ورائحة مقلاها تفضح الزقاق، وبدت قطة تكمن لفار بالقرب من المرمى، غنيمات تجتر هاجعة تحت شجرة النبق الشائخة، أصوات نيئة تطير قلقة على فترات، والحمام بدأت طلائع أسرابه من الهرمات تروح لأقفاصها، حينما كان أسفل الطاقة يصفف شعره المنسدل على كتفيه. كان يسمع صوت انغلاقها. سرت في مفاصله ذات الرعشة فصوب عينيه نحو بيت الجن. لم يبتسم. كأن رائحة الليل تتأهب للحضور، والشحوب يطوق المكان حينما أقفل الأولاد يعودون. وأخذ هلال يعود بعربته، وبه حنين للصافرة، راح يغني. من مجموعة (نداءات الأزقة الأخيرة) قيد الصدور.