«كتاب الوحشة» عبارة عن خمسة نواحٍ، كما يسميها الشاعر عبد الله ثابت، هي: «ناحية الليل والأمصال؟ ناحية الإشارات، ناحية الكحل والحريق، ناحية الخواتم والخراب، ناحية الجو»، وتتوحّد عناوين الناحية الأولى بعنوان «مصل» لكن الكاتب يرفق ذلك بأرقام تعيد إلى فكرة حساب الجمل (وهذه يمكن أن تكون لها دراسة مستقلة)، في حين تختفي العناوين من نصوص الناحية التالية (ناحية الإشارات) ويكتفي بوضع رسوم صغيرة أو خربشات عوضاً عن العناوين. أما ناحية الكحل والحريق فيتناوب عليها عنوانان فقط هما: كحل وحريق. وناحية الخواتم والخراب تختفي منها العناوين والخربشات تماماً. وتأتي ناحية الجو خاتمة النصوص وتنفرد وحدها بتحديد زمني «1,35 صباحاً» وكأنها تعلن ختام المشهد، وفي الوقت نفسه تجمع بين تشكيلات العنونة في النواحي الأولى، وكأنها بذلك تختزل النواحي السابقة وتلمها وتعلن نهايتها. (عتبات النص والصلة بين تشكلات العناوين والنصوص يمكن أن يكون محور دراسة أخرى). يمكن القول إن نصوص هذه المجموعة تتمحور حول موضوعة أساسية هي الإحساس بالعزلة والانفصال عن الآخر، بعبارة أخرى هي نوع من الواجهة بين الذات (الأنا) والآخر، مواجهة مليئة بالتساؤل والقلق والصراع بين متناقضات تقود بالذات إلى الدخول في مناطق معتمة وغامضة. هي مواجهة واعية، والوعي هنا يصير مسؤولية وعبئاً واختياراً في الوقت نفسه. من أين تأتي العزلة؟ ولِمَ هذا الانفصال والصراع؟ يمكن القول إن نصوص المجموعة تجيب عن هذه التساؤلات عبر مظاهر عدة تأتي متداخلة ويحيل أحدها إلى الآخر. ولعل أولها إحساس بالاختلاف يوجد هوة بين الذات والآخر ويعلن التناقض معها. ويتأكد الأمر بدءاً من غلاف المجموعة وعتبتها الأولى، إذ يأتي تحت اسم الكاتب وقبل عنوان المجموعة «كائن.. يقف في الظلام ويقول شيئاً». هكذا تحدد العبارة محوريها: الكائن / الذات الغامضة المجهولة والمختلفة، واختلافها يبدأ من «فعل الكتابة / القول / البوح...» وفي الوقت نفسه تشير إلى مظاهر القلق والانفصال، فهذا الكائن يقف في الظلام، فقد اختار عزلته وأعلن وحدته وحزنه وسواد عالمه منذ البداية. ويتعزز الاختلاف بذاكرة تعود إلى ولادة غامضة تكاد تصير أسطورية لهذا الكائن، فالنص الأول يعلن ولادة كائن غير عادي، وهي تحمل نبوءة بالمختلف (لأني ولدت في الشتاء). والشتاء بعواصفه يعزز الإحساس بالوحشة، لاسيما إذا ما ارتبط بالليل. «أكتب هذه الوحشة.. لأني حزين بالضرورة، لأني ولدت في الشتاء». لكنها كانت ولادة غير عادية فالأم «تسيل من نفسها أغنية، ويطيح من بطنها حزام رجل شديد الغرابة». هذه الغرابة هي ما يحدد علاقة الذات بالآخر منذ البداية، لكنها غرابة تحيل إلى الألم والوحشة والانفصال الذي يصل إلى تعبير مبكر عن الرفض «أنا حزين بالضرورة لأني لم أولد / لقد طحت من بطن أمي». إنها ليست ولادة عادية بل هي فعل سقوط قد يذكر بسقوط آدم والخطيئة الأولى التي حددت جوهر الإنسان وحملته عبء التكفير في العهد القديم. يتأكد الانفصال عن الآخر في إهداء المجموعة «إليك أيتها الأرض الشاسعة بكل البشر والكائنات.. لن أسامحك! / أما أنت يا قبضة الطين التي خلقت منها .. / أنا آسف لم أتوقع كل هذا». هكذا تقف الذات في مقابل البشر والكائنات التي تشكّل الآخر موضع الرفض والغضب، فكل آت مليء بالمجهول ومبررات القلق، ولهذا جاء اسم الإشارة مبهماً لتبقى الاحتمالات مفتوحة على كل ما هو آت وما لم يأت بعد، وعلى كل المتناقضات، حيث المفارقة تحكم الرؤيا كما تحكم العالم. من هنا تأتي المواجهة مع العالم عبر اختيار ومساءلة، اختيار الكتابة ومساءلتها في الوقت نفسه، إذ تفتتح المجموعة بنصوص تبتدئ دوماً بالفعل المضارع «وأكتب»، كما تنتهي أيضاً بفعل الكتابة. المضارع استمرارية وزمن منفتح، وهكذا تجيء الكتابة فعلاً مستمراً، فمن خلالها تعلن الذات وجودها، وبها ينفتح وعيها، ومن خلالها تتم المواجهة. من هذا يأتي هذا الإصرار على «وأكتب» لكن الكتابة ليست مجرد حروف تنثر على الورق بل هي مساءلة للوعي، ومن هنا يتوحد الكاتب بلغته مرة (فسيح إيماني في عروق الكلمات، وتفوح من جنباتها رائحتي، تنبت من أطرافها أصابعي، وتحملق من بين عكفاتها عيناي/.../إنني كلماتي» مصل (ت/ 400). «الكلمات أناي المحضة/ ... /الكلمات شيطاني الصغير» مصل (ز/ 7)». «لأن الكلمات حطب وجودي جائع». هكذا يتوحد الكاتب بلغته وتصير هي حواسه وجوهر كينونته، تصير وعيه ووجوده بالمفهوم الهايدجري للغة اذ أعطى اللغة طابعاً أنطولوجياً عندما قال إنها بيت الإنسان، والفهم الذي يحصل لكائن ما عن وضعه وعن مشاريعه لا يمكن أن يفسر، وبالتالي أن يؤول إلا في وسط التكلم باللغة». من هنا يأتي هذا التماهي بين الشاعر ولغته، وتأتي مساءلته لمسألة الكتابة في حد ذاتها عبر السؤال الذي يتكرر بأشكال مختلفة «لماذا أكتب؟ «أو عبر الإجابة الواردة في أكثر من صيغة «وأكتب لأني» أو «وما حاجتي؟» وفي الوقت نفسه يدرك أنه يعيش على شفا هاوية وأنه لن يصل إلى إجابة شافية ونهائية. إن الكتابة وعي ومسؤولية تحملها الذات تجاه نفسها وتجاه الآخر. الذات – كما يذكر بول ريكور – هي المبدعة للمعنى، وإبداع المعنى هو ما يميز الذات ليس كجوهر ولكن كرغبة ومساءلة وأمل. إن الذات هي التي تطرح مسألة وجودها أو تسائل نفسها، من هنا فاللغة في جوهرها إبداع تنحو إلى ما هو خارج ذاتها، وتملك إمكان التعدد في القول والتعبير والخطاب. وفي طرح الذات لوجودها هنا لا يملك الشاعر غير الإحساس بالقلق والتمزق والغضب، فتأتي إجابات السؤال متباينة، وتتخبط ما بين الإحساس بعبث الكتابة ولا جدواها، وبين ضرورتها وقدريتها، وهو مرة يراها وجوداً، ومرة عبثاً، مرة حلاً وأخرى هروباً ونفياً، وثالثة ارتطاماً وصراعاً مع الآخر/ الواقع والعالم الخارجي، في حيرة تعبر عن حالة من التمزق والانفصال والقلق الوجودي «وأكتب لأنني لا أفهم أو أدرك عم أبحث!/ ولا أدري وأكتب ولا أعرف ما أمضي إليه، فأنا كائن غاضب منذ البدء». يلاحظ هنا أن ما يحضر من العالم الخارجي تحديداً وبشكل صريح هما أمران: ذاكرة الطفولة والحنين إلى القرية بحيث غدا الخروج منها سقوطاً آخر بعد السقوط الأول/ الولادة،» بيتنا في الجبل وحده يؤلمني، «وفي ليلة ملعونة، عندما خلع الفلاح مئزره، ومرغ رأسه في الدهن/.../ ووحدها الريح/ صارت تعوي على جذعها». والأمر الثاني هو المرأة/ الحب التي تغدو علاقة ناقصة مشوهة غير قادرة على إخراج الذات من بئرها السحيق، ومن ثم تأتي دوماً في شكل علاقة منتهية، أو جافة وباردة، حين يصعب الحب أو ينتفي في ظل رفض الآخر، فيقول الشاعر في لغة تقترب من محمد الماغوط وتذكر به في بعض مقاطعها «وأكتب لأن الحب لص بذيء، ونيل ظالم من الآخرين/ يؤلمني أني لم أكن آخر موعد بين حبيبين (.....)، إنني كنت قصفا!/ أنني قلت مرة تلو مرة «ها قد نلت منك» إذ يغدو الحب معركة بين صياد وفريسة، نيل من الآخر واقتناص له في فعل متكرر غير منته. من هنا غالباً ما تكون المرأة/ أو الحب فعلاً ماضياً أو غياباً في مقابل الشاعر الذي يمثل الآن/ الحضور، «أنت في الغياب/.../ صباح إضافي يأتي وأنت في الهلاك الساكت/ وأنا هنا وحيداً «و» مهما يكن فما عدت أشهى غريق/ ولا عدت أجمل غريبة». و«حين تنام بجواري امرأة أبدو مثل كلمة قديمة...». وأمام هذا الانسحاب تصير الكتابة في كثير من الأحيان أشبه بتقطيع الأوصال، والتمزيق، أوصال اللغة والماضي والحاضر، أوصال العالم وأوصال الذاكرة، تصير الكتابة فعل عنفٍ واصطدامٍ، فعل ارتطام «أكتب كي أقول إنني لا أكتب فحسب../ إنني أرتطم». ينعكس هذا العنف في التعبير الحاد القوي عن الذات، «إنني كائن مولع بمصيره. ومن هنا يتعزز الاختلاف والرفض «ناقم أزلي هذا الفؤاد الخلاسي». «فلا يجلس شيء بطريقي../ لأنني نصل!».