تحت الجسور، رمى جسده، ظل يتربع على أكوام النفايات، ففي رائحتها ملاذه ومبتغاه، وفي ركامها يخفي ما يهواه. حياة هامشية عاشها ذلك الرجل، وكان يظنها أنها جوهرية لأمثال من وقعوا في الفخ، هكذا عاش محمد والذي كان يكني نفسه ب«أبو عبدالعزيز»، على مدى 35 عاما متنقلا بين غي وضلال وزيف المخدرات. اليوم بعدما راح الشيب يتجاوز بصيلات الشعر، وصولا إلى فروة الرأس، سأل أبو عبدالعزيز نفسه: ماذا بعد؟، تذكر بداياته الأولى، شابا قويا، يرتمي في أحضان الذل والهوان من أجل مخدرات لا يجرؤ على أن يفضح نفسه سوى لمن يأمن ألسنتهم، فلم يجد هناك من يأتمنه سوى القطط والجرذان. لكنه أخيرا عرف أنه يجب أن يبوح بما في داخله، سأل نفسه مرارا وتكرارا، لماذا أنا هنا؟، استرجع شريط الذكريات منذ البدايات الأولى، فلم يكن من أسرة ثرية ولا فقيرة، حاله متوسط، يعيش بين أب وأم، يقسو عليه الرجل، وتحنو عليه المرأة، لكنه قرر الانتصار لأهوائه، فارتمى في أحضان الشارع، كلما وجد قسوة من الأب، الذي لم يكن يحلم لابنه إلا مستقبلا مشرقا، لكن الابن كان عكس التوقعات. ارتمى محمد في فخ المخدرات، هو لا يعرف ما إذا كان طوعا أو كرها، لكنه وجد نفسه مستسلما لخطاها تحركه كيفما شاء، ولأن أهله لم يبخلوا عليه بما يريد، ظنوا أن تصرفاته التي يحركها إدمانه ليست إلا «مسا من الجن»، ولم يتوقعوا أن يكون ابنهم ممن سقطوا في فخ الرذيلة، سارعوا به إلى مستشفى شهار بالطائف، هناك أبلغوا إدارة المستشفى بأن فلذة كبدهم الذي لم يتعد عمره العشرين عاما، للأسف يعاني من «الجنون»، مطالبين إياهم علاجه، لعله يعود إلى رشده، وتركوه في ذمتهم. نجح محمد في مغادرة عنابر مستشفى شهار، لكنه لم يفلت من حاويات النفايات في الشوارع العامة، ولكن سرعان ما افتضح أمره ليعرف القاصي والداني أنه مدمن، ويجد نفسه ابن الشارع، استسلم له، مرة يستظل بجسر تحت التشييد، وأخرى بغرفة نصفها مهدم، وثالثة يرتمي في أحضان دورات المياه العمومية في المساجد والتي لم يدخلها يوما، مواصلا حياة الضياع مع المخدرات، ويتحول من مدمن إلى مروج، لكنه يجد نفسه في عنابر أخرى تليق به، اسمها السجن. داخل السجن عاش معنى الغربة، بعدما وجد نفسه بلا أهل، لكنه لم يتعظ بما حوله، وآثر على المضي قدما في طريقه، ليخرج ويدخل السجن لأكثر من 20 مرة، جميعها بسبب المخدرات، فيما خمس قضايا أخرى بسبب عقوق الوالدين، ومع ذلك لم يتعظ بطريق الضلال، ليجد نفسه ممن عرفهم السجن، حتى تجاوز حدود المعقول واللا معقول، فتم تغريبه على سجون خارج جدة، ووجد نفسه محكوما عليه بالقصاص ثلاث مرات، في قضايا مخدرات، وترويج، وبدلا من أن تردعه تلك الجرائم والعقوبات كانت له دافعا لمزيد من الإجرام. حتى والداه اللذان توفيا وهو داخل السجن لم يحركا أجفانه ليبكي أحدهما أو كليهما، فبقي بعيدا عن الواقع والإنسانية، مجردا من الأحاسيس، منساقا إلى أوهامه. خرج من السجن في إحدى المرات، ليجد إخوته محتفظين له بورثه كاملا، مبلغ لا يقل عن 750 ألف ريال، ليقبضها على أحر من الجمر، وفيما كانت وصايا إخوته له بأن يرد الله له عقله من الغي، وأن يبني له أسرة بمال حلال، وأن يعود إلى رشده. دعاه أخاه أن يستثمر ماله فيما ينفعه، ويتجنب كل ما يمكن أن يقوده مجددا إلى السجن، لكنه استمع ولم ينصت، فأخذ ماله، واشترى به ضلاله، إذ كان يخسر ما يصل إلى 70 ألف ريال أسبوعيا على الهيروين، يتعاطاه ويروجه، لكن «الزبد يذهب جفاء» فكل ما يجمعه يبدده فيما لا ينفعه، ليجد نفسه خلال أقل من شهرين، بلا ورث إلا من الرذيلة والضياع، ويبدأ من حيث لا مال ولا وازع. عاد محمد إلى السجن مجددا، فلم يجد من يسأل عنه من إخوته بعدما يئسوا من شفائه ومن عودته لطريق الحق، تركوه بعدما أيقنوا أنه بذرة فتنة لا تليق بالأسرة. خرج مرة أخرى، بعد انقضاء المدة، فعاش مشردا بين الأزقة، يشتري ويبيع المخدرات، والتي لا يعرف سواها طريقا، يروجها على بعض معارفه، فلا هم له إلا هدم المجتمع، بعدما وجد نفسه بلا زوجة ولا أبناء ولا أي من الأقارب. وما إن بلغ من العمر خمسين عاما، حتى وجد نفسه أسير الأمراض واحدة تلو الأخرى، فهزل جسده النحيل، ولم يصدم إلا بعدما فقد اثنين من أصدقائه قتلتهم المخدرات، عندها بدأ يسأل نفسه، إلى متى أستمر على هذا الحال؟، نظر حوله فلم يجد سوى القطط تقاسمه كسرة الخبز في منزل مهجور، عندها نهض ليعلن رغبته في التوبة، وتذرف دموعه للمرة الأولى في حياته، وينوي العلاج. يقول ل«عكاظ» أبو عبدالعزيز: لطالما طلبت العلاج لأكثر من 20 مرة، لكنني فشلت في الاستمرار، لكنني أشعر الآن داخل مستشفى الأمل، بأنني أريد العلاج أكثر من أي وقت مضى، وأشعر أنني عازم على أن أعيش للمرة الأولى في حياتي، فيكفي أنني وجدت هنا الحياة الكريمة على مدى التسعة أشهر التي قضيتها، يعالجني فريق طبي كامل يعرف كل تفاصيل حياتي، ويعمل على إنعاشي بعدما تخلصت بفضل من الله من السموم التي في دمي، لكن كل أملي أن أتخلص من الذنب الذي يلاحقني، فكثيرون أوقعتهم فريسة في المخدرات ولا أعرف عنهم شيئا، وكل أملي أن يغفر لي الله تعالى، وأتمنى ألا أموت قبل أن يقبل مني الله تعالى التوبة، ادعوا الله لي بالثبات.