بالرغم من قساوة الحياة وشح الموارد والإمكانيات في الماضي، مقارنة برغد العيش في الوقت الحالي، إلا أن كبار السن مازالوا يحملون الكثير من الذكريات منها الحلوة ومنها المرة ولكنها محفورة في وجدان الذاكرة لا يمحوها الزمن، إنها ذكريات جمعت بين الأحبة والأخوة والصداقة والنفوس الطيبة، حيث كان المرء يستيقظ منذ الصباح الباكر في شهر رمضان ويتجه إلى الحقول والمزارع لحراثة الأرض وسقي الزرع أو رعي الأغنام والاحتطاب.. «عكاظ» التقت عددا من كبار السن الذين أبدوا الحنين لرمضان زمان. في البداية، قال العم سعيد معدي آل سليم في عقده السادس بنبرة لا يكسوها الحزن خاصة أنه لم يتزوج خلال سنوات عمره المديد: إن القلوب في الماضي البعيدة كانت نظيفة وكان الجار يتطقس ويتابع أحوال جاره، وأضاف: نعاني في وقتنا الحالي من العزلة ومفهوم الحياة الجديدة وروح العصر التي يعيشها الشباب اليوم، منتقدا تصرفات بعض الشباب الذين يركضون وراء الصرعات والتقليعات الدخيلة على مجتمعنا، حيث يقضون يومهم كاملا بين النوم والأكل ومتابعة القنوات الفضائية، متمنيا من الشباب تنمية الوطن. وأضاف آل سليم: تزوجت مرة من قاصرة لم تتجاوز ال12 عاما وبعدها لم أجرب الزواج مرة أخرة لكنني حاليا لا أفكر إطلاقا في الزواج، وأرفض ما يفعله بعض كبار السن في الاقتران بزواج المسيار. وقال: مهر الزوجات في الوقت الماضي أقل بكثير من الوقت الحالي، ولا أؤيد الإسراف في الحفلات والزوجات، خاصة وأن تكاليف الزواج في وقتنا الحاضر باهظة، لا يتحملها الشباب وخصوصا غلاء المهور التي ساعدت على تأخر زواج الفتيات. وحول اختلاف العادات والسلوكيات بين رمضان اليوم والأمس، قال آل سليم: في الماضي كنا نصحو منذ الصباح وتجدنا في حقولنا ومزارعنا نحرث ونزرع ونسقي ونرعى الأغنام ونقوم بالاحتطاب وهذا كان جدولنا اليومي، أما بعض الشباب الآن يحاول طمس عاداتنا بالمدنية مدفوعين بما تبثه الفضائيات التي أثرت على بيوتنا وتسببت في تغيير سلوكيات أطفالنا وشبابنا. وزاد: العيد في الماضي كان يشكل ببساطته وبدائيته فرحة كبيرة لنا، والعادات القديمة لم يتبق منها شيء الآن، ففرحة العيد أصبحت ماضية وليست حاضرة، وكنا وقتها صغارا في السن ونحترم الكبير، ورسائل الجوال أفسدت فرحة الأعياد. من جهته، بين سفر بن حسن أبو خثرة أنه يعمل في الأرض لاكتساب رزقه، ويعيش في عزلة عن المجتمع بعد أن طلق زوجته، وأوضح انه فقد الشيء الكبير نظرا لاختلاف الوضع الحالي عما كان عليه في السابق خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية. وقال: عندما تزوجت وطلقت غمرتني الحياة بقسوتها ومرارتها، لاسيما أن أهلي وعشيرتي وإخوتي الذين يسكنون في إحدى قرى المنطقة تناسوني، ولم يسألوا عني منذ أكثر من أربعين عاما، وربما أكون بنظرهم في عداد الموتى، كما أن كبر سني وآلام المفاصل التي تسكن جسدي لم تسعفني لزيارة أقاربي في القرية، وأخشى أن أموت وحدي ولا أجد من يترحم علي. وعن حياته الحالية أوضح أنه يقضيها بشكلها الطبيعي مفضلا حياة الماضي ونكهتها الخاصة المليئة بالرحمة والمودة، بعيدا عن العولمة وعصر التقنيات التي يشهدا العالم هذه الأيام في ظل قلة التواصل الاجتماعي والتقصير الكبير حيث تمتد المقاطعات لسنوات وإن وجد من تواصل اجتماعي فهو في الأعياد وبين أقرب الناس. وأردف والحسرة واضحة في نبرات صوته: ربما يموت البعض ولا يتم معرفة ذلك من بعض الأقارب إلا بعد انتهاء مراسم العزاء أحيانا وهو ما يدل على انعدام التواصل الاجتماعي حيث كان الجار لا ينام إلا وقد زار وعرف ماذا لدى جاره من هموم ويعرف كل صغيرة وكبيرة عنه وكانت منازل القرى في الماضي مثل خلية النحل طوال اليوم في التواصل المستمر وليس بالسنوات كما هو الحال اليوم الذي يشهد الهجران والقطيعة. وزاد: الخلافات والأموال ومصاعب الحياة طغت على الناس وأصبح الكل منشغلا بدنياه فقط بعيدا عن أخيه الآخر وجاره وقريبه وحتى شقيقه من أمه وأبيه، وطغت العولمة والإنترنت وأجواء المدن وزحام الحياة وصخبها وأثرت على أخلاقيات البشر إلا من رحم الله، وأصبح الناس يسبحون في هموم الحياة وتوفير رغد العيش والبحث عن المادة أولا بطريقة أصبحت مخيفة جدا، ويضيف: أصبح الأبناء والبنات بعيدين بأفكارهم وأجسادهم عن الأب والأم بعد أن سيطرت القنوات الفضائية على أفكارهم، ورغم ذلك علينا المحافظة على الموروث الشعبي حتى في العادات والتقاليد التي كان عليها أسلافنا من الآباء والأجداد. وأوضح ل«عكاظ» المواطن ظافر عبدالله الشهري أن الحياة في الماضي كانت أفضل مما هي عليه الآن، وقال: كنا قديما نعيش بقلوب صافية ونتقاسم الخبز فيما بيننا، أما شباب اليوم فيرهقون أنفسهم ب«التطعيس» وأمور أخرى منافية للعادات والتقاليد، منتقدا الإسراف في حفلات الأفراح، والإسراف في الموائد دون مخافة الله. ومقارنة بزواج الماضي والحاضر قال ظافر: العادات قديمة كانت بسيطة ومتواضعة، وكان أبناء القرية والأقارب يحرصون على حضور مراسم الأعراس وحفلات الزواج وسط أجواء مبسطة جدا وقليلة التكلفة تسودها الألفة والمحبة والسماحة والتواضع، وكان الزواج يتم بأقل التكاليف، وكانت الزفة تتم بمشاركة أهل القرية والقرى المجاورة وعلى الرقصات الشعبية وأصداء البنادق ودويها فرحة بالعريس، وهذا عكس ما نشاهده اليوم من مبالغات في الإسراف وتكبد عناء السفر خارج الوطن لقضاء ما أسموه بشهر العسل، فضلا عن الشروط الأخرى التي تضع اليوم من قبل العروس في إحضار الفرق الشعبية وحجز قصور الأفراح وإحضار الخادمات والبذخ والإسراف. وعن أنواع المأكولات الشعبية في الأفراح في الماضي ومقارنتها بالحاضر يقول العم ظافر: في الماضي كانت نساؤنا تصنع الخبز واللحم والسمن والعسل وكافة الأكلات الشعبية التي تقدم آنذاك وليس هناك يد خفية أجنبية تعمل ولائم المناسبات كما هو حاصل في يومنا هذا. وقال: الزمن لم يتغير بل تغير الإنسان نفسه متاثرا بما يدور حوله، ونحن كبار السن نرى متغيرات كثيرة عن الماضي وهذا لا يناسبنا أبدا ولكنه زمن يجب أن نتعايش معه وأتنمى أن يعود الزمن إلى الوراء وتعود المنازل القديمة والحياة القديمة إلى ماضيها. فيما امتدح محنش عبيد سليمان الحياة في الماضي من حيث التواصل بين الأرحام والعمل على ترسيخ مفهوم الحياة، منوها بأن الحياة في الماضي كانت تعتمد على العمل في الصباح وقضاء أعمال الحرث والرعي والزراعة، وكانت الوجبات الرمضانية تتكون من البر والسمن والعسل، قبل أن تغزو الوجبات السريعة بطوننا وتضر بصحتنا. وبين محنش أن العصر الحديث غير معالم حياة القرية وتحول الدار القديم المبني من الحجر والطين إلى قصور ومساحات كبيرة، وبات لكل فرد في العائلة غرفة خاصة، عكس الماضي حيث كان الدار الواحد والحجرة الواحدة تجمع أفراد الأسرة. واستطرد محنش بالقول: الحياة اليوم وما فيها من العولمة والحضارة هي أيضا جميلة وإن لم تناسبنا، وهناك تطور في العمران وفي وسائل الكشف عن الأمراض باستخدام التقنيات، وأيضا وسائل النقل الحديثة التي قصرت المسافات، حيث كان المرء إذا أراد أن يؤدي فريضة الحج في الماضي يحتاج عدة أشهر مشيا على الأقدام والجمال والحمير للوصول إلى المشاعر واليوم بحمد الله لا يستغرق الأمر سوى ساعات قلائل ذهابا وإيابا وكل جيل وله عصره. وتابع: الأمراض اليوم تفشت في البشر من كل أنواع الداء فنجد الطفل يشكو من السكري والضغط وأمراض القلب فما بالك بالمسن وكبير السن بينما ولله الحمد كانت هذه الأمراض في الماضي لا نعرفها وكان التداوي فيها قليل وعن طريق الطب الشعبي والكي فقط وكانت قليلة الأمراض وبسيطة ببساطة الحياة. وأضاف: اليوم زاد عدد البشر وكثرت الأمراض ومشاق الحياة، وهكذا الحياة تدور وتدور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن المرء دائما ما يتشوق للزمن الجميل ويسترجع ذكريات رمضان الماضي ودوي المدفع والأعيرة النارية وقت الأذان والإفطار وكذلك وقت الإمساك والإفطار والسحور وما كان يرافقها من فرحة ولم لشمل أهالي القرية والبيت الواحد ومشاهدة الناس على شكل مجموعات يجوبون المنازل والبيوت في القرى يتبادلون التهاني والتبريكات بمقدم شهر رمضان ويتبادلون السفرة الرمضانية ومختلف الأكلات الشعبية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت والتي هي من صنعهم ومن شقاء أيديهم، ومن حصاد المزارع المحيطة بمنازلهم والغنية بكافة أنواع الحبوب والثروة الحيوانية كالسمن والحليب، حيث كانت الأسرة تأكل ما تزرع، لذلك كانت حياة الماضي مختلفة عن اليوم وبسيطة بساطة ذلك الزمن وأهله الطيبين.