بحسها الأدبي وثرائها اللغوي، استطاعت أن تحول هناء حجازي المسافرة في عالم الطب والمصطلحات الكيميائية إلى إنسانة أخرى مختلفة تماما، هي هناء التي جمعت بين الحسنيين الطب والأدب والفن التشكيلي أيضا، من هنا بدأ مشوارها الإبداعي مع الكلمة والحرف عبر كتابة القصة والنصوص الإبداعية والترجمة لكبار الروائيين العالميين، بأسلوب سردي يبعث الدهشة في وجدان المتلقي من أول وهلة، لتحقق بذلك حضورا مميزا في المشهد الأدبي السعودي الحديث، والذي توجته مؤخرا بكتابها «مختلف» الذي تتحدث عنه اليوم، حيث حصلت بموجبه على جائزة وزارة الثقافة للكتاب لهذا العام 3102م. «عكاظ» التقت الدكتورة هناء حجازي، وسألتها عن قصة ولادة كتابها «مختلف.. طفل الإسبرجر.. مختلف لكن ليس أقل»، فقالت: علمت أن هناك محاضرة عن التوحد ستقام في أحد المستشفيات الكبرى في جدة. ذهبت لتلك المحاضرة. وجلست كي أستمع، كانت المحاضِرة أخصائية قادمة من بريطانيا، حين أتذكر تلك المحاضرة الآن، لا أتذكر سوى الألم الذي شعرت به وأنا أستمع إليهم، مع أنني كنت قرأت عن المرض، لكن ما حدث لي شاهدته في الأفلام، الآن أعرف أن مخرجي السينما يلاحظون الناس جيدا حين يرسمون الشخصيات. جلست في الصفوف الأخيرة. استمعت للمحاضرة، وبلا شعور، كنت كأنني أكتشف عالما جديدا لم أره ولم أسمع عنه من قبل، لكنه، هذا العالم، يضم ولدي، ولدي يعيش فيه سنوات وأنا غافلة عنه، بدأت دموعي تهطل بصمت، كنت أمسحها بصمت وتعود لتهطل مرة أخرى. كل معلومة كانت تقولها كانت تفتح لي بابا لفهم يوسف، الأصوات التي تزعجهم، ذكرتني به وهو يطلب مني إغلاق مسجل السيارة، الروائح التي لا يتحملونها، ذكرتني به وهو يقفل باب المطبخ حتى لا يشم رائحة الطبخ، الأطعمة التي يصرون عليها ولا يغيرونها ذكرتني بالبرجر والنجتس ومساومتي له والغثيان الذي يصيبه حين أرغمه على أكل طعامنا. كل حكاية كل عبارة، أدخلتني إلى عالمه ودنياه، بكيت، بكيت في تلك المحاضرة، طوال المحاضرة كنت أبكي، كان الآباء يستمعون ويسألون ويناقشون، وأنا كنت وحيدة، جديدة، حمدت الله أن أحدا لم يلتفت إلي، لم أكن أريد أحدا يربت على كتفي. استمعت وبكيت ومسحت دموعي.. أتذكر أنني في تلك الليلة اكتشفت ولدي مرة أخرى، وبكيت لا أعرف تماما لماذا؟ لأني عرفته الآن، أو لأنني لم أعرفه من قبل، المهم أن تلك الدموع غسلتني وجددتني وأعادتني إلى البيت قادرة على التعامل مع ولدي. حبيبي. من كتاب مختلف منذ أكثر من خمس سنوات وأنا كلما سألني شخص عن أخبار الكتابة أجيب أكتب كتابا عن ولدي. حين أسترجع الزمن أكتشف أنني قررت كتابة الكتاب بعد اكتشافي لحالته بوقت قصير. لابد أن المسألة أثرت في بدرجة كبيرة وقررت معها الكتابة وتصورت أنني أملك من التفاصيل ما يكفي كي أكتب. مع مرور الوقت كانت الحكايات تتراكم والتفاصيل تزيد واللوحة تضاف إليها ألوان وأبعاد أخرى. الحكاية بدأت مع اكتشاف حالة الاسبرجر عند ولدي. وهو طيف من أطياف التوحد يتمتع المصابين به بذكاء طبيعي ولا يعانون من تأخر اللغة كما في حالات التوحد الأخرى. لكن هناك بعض الأعراض التي يعانون منها أكثرها وضوحا الاجتماعية حيث لا يحسنون الاختلاط بالناس. كتبت عن رحلتي في اكتشاف الحالة. عن معاناتي وأنا أبحث عن التشخيص وما صادف ذلك من إرهاق نفسي لعدم وضوح الأمور وقلة المختصين في هذا المجال. ثم رحلتي في نقله إلى مدرسة يمكن لها مساعدته بشكل أكبر وإتاحة خيارات أفضل. هناك أيضا البحث عن الحل والعلاج والفريق الذي يمكن أن يساعد من علاج وظيفي ونفسي وأشياء أخرى. الكتاب يحتوي على كم هائل من المشاعر. لم أقصد أن أفعل ذلك. قصدت فقط أن أكتب ماحدث. لكنني وأنا أكتب تدفق كل ذلك. كان الألم حادا وقويا. لم يخف مع مرور الوقت. مع أنني أمضيت خمس سنوات وأنا أكتبه وأراجعه لكنه ظل يحمل نفس الألم. من أوله لآخره. حتى الآن. يزرع بداخلي ذات المشاعر وكأنني حين أقرؤه أعيش اللحظة المكتوبة مرة أخرى. كنت أبحث عن اسم يمنحني القدرة على التعبير عما أشعر به. وشاهدت خلال كتابتي للكتاب فيلما يحكي عن العالمة الأمريكية المصابة بالتوحد جراندين وصفتها أمها داخل الفيلم بعبارة «مختلفة لكن ليست أقل» من هنا جاء العنوان.. أتذكر أنني حين بدأت الكتابة أخذت الإذن منه. ولدي. كان في العاشرة في ذلك الوقت. قلت له أكتب كتابا عنك. هل أنت موافق. هز كتفيه وقال ليس لدي مانع. المهم ألا يكون في الكتاب شيء محرج عني. قلت له ماذا سيحوي الكتاب ووافق.. وبدأت الكتابة.