القصة القصيرة جدا فن له جمالياته ككتابة سردية لها سمات عصرها المتسارع، لكن لا يمكن تخيل حضور هذه الجماليات إن على مستوى المضمون أو تقنية الكتابة دون أن يكون هناك تراكم كتابي يفضي إلى خبرة تقود إلى تكثيف مقنن. لا أتخيل الولوج إلى كتابة هذا النوع السردي مباشرة، إذ من المسلم به أنها الجنس السردي المخاتل والمراوغ والعميق، ولأنها ستشغل مساحة كتابية صغيرة من ناحية الحجم، فستكون مدعاة للولوج إلى عالمها الذي لن تفضحه أسطر متعاقبة طويلة كالقصة القصيرة أو الرواية مثلا، أو قافية ووزن وإيقاع لقصيدة شعرية، وليكون هناك كتابة إبداعية لا بد أن يكون هناك خبرة مسبقة تفاعلت مع كتابات سردية تسبق كتابتها، قصة، رواية... إلخ. ولذلك رأينا من يلج عبر كتابتها إلى مملكة الكتابة، تسانده دور نشر مادية رديئة وإعلام مصفق غير مسؤول، ما جعل منها مطية سهلة تجعلها في عداد الكتابة العبثية في كثير مما نقرأ من نصوص تدعي أنها قصص قصيرة جدا، تظهر تلك النصوص ظاهريا بشكل قصص قصيرة جدا، وتبدو للقارئ غير المتمرس وقد التزمت بالقصر وسلامة الأخطاء النحوية واهتمام بعلامات الترقيم كشروط مرئية تقوم عليها، هذا ما يبدو للوهلة الأولى، وهي الجناية التي تحط من شأنها كفن إبداعي ما يفتح شهية للكتابة لكل من تمنى أن يكون شيئا دون أن يملك شيئا، قاصا بلا قصص، ومبدعا بلا إبداع، مثل هذه الكتابة تكتفي بقمة جبل الجليد، مع أن القصة القصيرة جدا في فهمنا العميق لها هي ما خفي منها، ذاك الجزء المغموس من الجبل وهو الجزء الأكبر، فحضورها القوي يكمن فيما تحيل إليه، قد تكون بضع كلمات لكنها تفتح أبوابا للدهشة والمساءلة وتلقي بالمخيلة إلى أقصى مداها، ولذلك كانت قيمة هذا الفن الإبداعي واضحة وجلية عند من تعاطى كتابتها من قبل كتاب خاضوا معترك الكتابة السردية الإبداعية المبنية على رؤى وخبرة معرفية وحياتية، بالمقابل، كانت الجناية الكتابية تظهر كفعل عبثي عبر كتابتها ممن استسهل الولوج إلى عالمها دون أن يمتلك شروط المعرفة القبلية في الكتابة السردية، ومثل هذه العبثية هي من تقف عائقا يجعل من الأصوات التي تشكك في مشروعية حضورها صوتا عاليا حتى الآن.