الشعر تسمية للوجود؛ أي إنه يعطي أسماء جديدة للأشياء يجعلها مختلفة عما تبدو عليه في عالم الحياة اليومية. إن الشاعر إذ يسمي الوجود يسميه كما هو، ولا يستنجد بتصورات مسبقة أو مفاهيم علمية. صحيح أن لغة الشاعر هي في أصلها لغة المجتمع، ولكنه يلجأ للمجاز وللخيال وللاستعارة لكي يقول هذا الوجود قولا جديدا؛ لذا يغلب على نص الشاعر المجاز والاستعارة والغموض. وكذلك على نص الفيلسوف الحر؛ كنيتشه وبرجسون وهيدجر... وغيرهم. إن الشاعر يجد نفسه مضطرا (لقول) الوجود وتسميته، ومن ثم فإن الوجود وبالتالي الأشياء يكتسب في الخطاب الشعري حقيقة ما، ولكنها بالتأكيد ليست حقيقة تصورية أو علمية، بل حقيقة شعرية أو جمالية؛ إنها الصورة.. صورة الشيء كما يظهر نفسه. والحقيقة الجمالية تعبير قريب جدا من مطابقة الوجود ولا يمارس أية إحالة أو تحويل له إلا ما يقتضيه انفتاح القول الشعري على الكائن مما يجوز معه أن نقول إن الكائن ذاته هو من يتكلم، بل هو من يحيل القول إلى ذاته، والقول الشعري قول غير مسبوق بإرادة ما، فالموجود يقال، شعريا، في لحظة انبناء النص، بل وفي لحظة قراءة النص وتذوقه وتجربة الكائن وهو يقول ذاته فيه. إن القول الشعري يتأسس على تجلي الموجود، ويكون الموجود مقياسا للقول الشعري. اللغة، إذن، هي مأوى الحقائق وليست مأوى للوجود كما يقول هيدجر، والحقيقة التي يتأسس عليها القول الشعري هي الحقيقة الفردية؛ أي التي تكون تعبيرا مطابقا للوجود ذاته، إذ الوجود غير تصوري أو كلي بل فردي متعين، أما التصور الذي يلجأ للكليات والمفاهيم فهو الحقيقة الكلية التي ينبني عليها خطاب التصور، أو لنقل خطاب العلم والميتافيزيقا الكلاسيكية والعلوم الإنسانية. يمكن للفلسفة والعلوم أن تنهج المنهج الشعري! قد يبدو هذا غريبا.. ولكن المنهج الشعري في هذا الصدد ليس شيئا آخر سوى المنهج الفينومينولوجي الذي يهدف إلى استيضاح الموجودات في فردانيتها قبل التأسيس عليها كموضوعات للعلم الكلي. «العودة إلى الأشياء كما هي» تعد عودة للوجود النابض بالحياة. ومشكلة العلوم أنها تتجاهل فردانية الأشياء وترتفع بها في سماء التجريد لتصنع منها قانونا علميا يهدف إلى السيطرة عليها وإنتاج تقنية واستهلاك لا ينتهي. العلم اليوم لم يعد تعرفا على الأشياء بل سيطرة عليها؛ لذا فهو يتجاهل الأشياء في الوقت الذي يزعم فيها إعطاء معرفة عنها. والتقنية اليوم بوصفها غاية العلوم تؤكد هذه الحقيقة. لماذا لا يكون موقفنا من الأشياء والعالم والآخرين موقفا شعريا؟ أي موقفا للمعرفة الحقيقية لا الهيمنة التقنية؟ اللغة الشعرية بخلاف اللغة العادية تعيد تسمية الأشياء باستمرار، وتراعي التغيرات التي تطرأ عليها.. أما اللغة العادية اليومية، وهي أصل اللغة العلمية!، تثبت الأشياء على حالاتها الأولى، وبالتالي تبقي الأسماء كما هي. ما يمتاز به الموقف الشعري أو الجمالي أنه ينفتح على الشيء، ويتركه يظهر نفسه، ولا يفرض عليه أفكارا مسبقة تجعله يعاود الاختفاء.