سخر أبو نواس من الشعراء الذين كانوا ينوحون في شعرهم على الأطلال ويكثرون من الوقوف والبكاء عند الأماكن التي كانت حاضنة أوقات هناءتهم بقرب الحبيبة، واقترح عليهم تبديل تلك العادة بالبدء بالتغني بشيء آخر غير الوقوف على الأطلال وسفح الدمع عندها حزنا وأسى، فقال منتقدا فعلهم: (صفة الطلول بلاغة القدم،، فاجعل صفاتك لابنة الكرم)، وتلقى النقاد سخرية أبي نواس هذه بشيء من التقدير فعدوه من أوائل المجددين في النسق الشعري الرافضين للنمط القديم القائم على بناء هيكل القصيدة بالبدء بالوقوف على الأطلال والبكاء عندها. أما في ظني، فإني أجد أبا نواس لم يكن موفقا في سخريته تلك، فهو لكونه شاعرا حسيا موغلا في الحسية، لم يتمكن من تقدير الانفعالات النفسية والمشاعر العاطفية التي كانت تتحرك داخل صدور أولئك الشعراء الباكين على الأطلال كلما مروا بتلك الأماكن الخاوية من قاطنيها فوجدوها ميتة باردة بعد أن كانت تنبض بالحياة والدفء حاضنة أيام سعادتهم وهناءتهم بقرب الحبيبة. الأماكن ترتبط في الذاكرة بمن كان يشغلها، ومن كان يضيء بنوره نطاقها ويملأ شذا عطره فضاءاتها، فالأماكن والذاكرة توأمان وربما لذلك نجحت أغنية (الأماكن) التي تتجلى في كلماتها لوعة المشاعر واضطرابها عند الطواف بأماكن اللقيا القديمة حيث كل شيء فيها يذكر بالحبيب، (كنت أظن الريح جابك، عطرك يسلم علي، كنت أظن الشوق جابك، تجلس بجنبي شوي، وما بقى بالعمر شي، واحتريتك!! كنت أظن!! وخاب ظني!!). هناك أماكن ترتبط في ذاكرة التاريخ بقصص الحب الخالدة، فتلبسها تلك القصص جمالا مستلا من جمال الحب في أذهان الناس، وربما اتخذت تلك الأماكن أهمية خاصة تنبثق من ارتباطها التاريخي بأشخاص وعتهم الذاكرة الجمعية في أشكال بهية وحالمة مثل صخرة جميل وبثينة بين (تيماء ووادي القرى) التي يقال إنهما كانا يجلسان فوقها معا، وقبرا عروة وعفراء، قرب صنعاء اللذان يعدان من غرائب الأماكن، فحسب ما يروى: توفي الحبيبان في زمن متقارب ودفنا في قبرين متجاورين فنبتت فوق قبريهما شجرتان غريبتا الشكل نمتا حتى تقاربتا والتفت أغصانهما معا في عناق يظلل القبرين معا. وهناك أيضا جبل التوباد قرب الأفلاج الذي اشتهر بأن قيس وليلى كانا يرعيان الغنم عند سفحه، ولما كبرا وتباعدا ظل قيس يحن إلى مكان اللقيا القديم فيرتاده من حين لآخر وكلما مر بالجبل فاضت مدامعه وأحس به متجاوبا مع أحزانه: (وأجهشت للتوباد حين رأيته،، وكبر للرحمن حين رآني. وأذرفت دمع العين لما عرفته،، ونادى بأعلى صوته فدعاني). تظل الأماكن لا قيمة لها في حد ذاتها، لكنها تستمد قيمتها من الذاكرة التي تضفي عليها الحياة وتبث فيها الروح. فاكس 4555382-1 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة