سكب الناقد الكبير عبدالملك مرتاض في عدد «عكاظ» 4293 عبارات تشبه العبرات، تشي بلهيب يهب على صدره فيرمض حشاه ويذيب لفائف قلبه، وهو يرى الثقافة تذوي متسائلا: «أهو خريف الثقافة العربية؟» ونادبا خلو الساحات من الملتقيات الحية والمنتديات المتقدة متوجا مقالته بنماذج مما كان. وأحسب أن ناقدنا (حفر في تجاعيد ذاكرته) عما يشفي غلته فلم يجد ولو استحضر روايته (هشيم الزمن) لأدرك أن كل واحة لا بد أن تصوح يوما، فيوحش القفر، وتنطفئ الومضات، ويغطش الليل، ويتجهم الواقع... لقد جاءت عبارات مرتاض تنزف عبرات ونداء صاخبا موجها إلى قلوب الغيارى لكنه لطفها بمفردة (خريف) والخريف عند (هوجو) هو الربيع. لكن الحق أن ثقافتنا بحالها التي أبصرتها عين (مرتاض) تعيش صيفا تسلل لهيبه المحرق إلى جسدها النضر فعبث به كما تعبث السموم ببقايا زهر الربيع، حتى أضحت شائخة مسلوبة الرواء ومحرومة النماء، سكونها خافت وصمتها ثقيل، يلفها كفن القحط وتسفها رياح الخماسين، ولم يتأوه عليها أحد سوى (مرتاض) وحينئذ يحق له ألا يستشهد بقول عمرو بن الحارث الجرهمي، بل بقول زهير: تبصر خليلي هل ترى من ظعائن تحملن بالعلياء من فوق جرثم نعم صدق (مرتاض) فمؤسسات الثقافة وملتقياتها التي كانت منارات للمعرفة ومنصات للإبداع أصبحت بعد (صيحة) الماديات كهشيم المحتظر لا تسمع فيها إلا جعجعة مظهرية حول المرأة: كيف تجلس؟ وأين؟ وماذا تلبس؟ ولماذا؟ أو تطارحا في مربعات ضيقة من فئة صنعتهم لحظات تغييب الوعي. إن تلك المؤسسات ضرب من الموات فلا سامر يطرب ولا مغردا يصدح، تنتظر تسليم الروح لبارئها؛ لأن بقايا المثقفين والمتثيقفين أدركهم مس من الطمع المادي والغرور النخبوي والتعالي النرجسي والتقافز الإعلامي... نعم ! فبوح (مرتاض) دليل على أنه أبصر المكان الذي كان يغشاه صامتا والنور قاتما والجو غريبا فجاءت صرخته، واليقين أنها لن تجد صدى، وكأنها تصدر من غيابت الجب بعد أن تآمر عليها الساسة والمتثيقفون الذين تسللوا إلى الساحة لواذا في زمن شح فيه الرموز من أولئك الأيفاع الذين كانوا يتنقلون بين العواصم والأندية الأدبية كما النحل بين الروض لا يتذوقون غير الرحيق من تراثنا ولا يتقيأون إلا العسل المصفى. أما وقد غابو أو غيبوا فمن تراهم يتقافزون هم من غشيت سماواتهم الزهر غمة التمظهر الثقافي والغارة على التراث بدل الغيرة عليه، فحجبوا عن أعين الأجيال الإبداع المضيء وعن نفوسهم الصفاء النضر وعن عقولهم المنهل العذب والمعرفة المنشودة، فذهبت إبداعاتهم أباديد وتفرقوا أيادي سبأ، يلتمس كل منهم طريقه في ظلام حالك لا أمل لنا ولهم إلا لحظة استيقاظ قادمة تنضح جفن الثقافة الوسنان بأنداء الإبداع والطموح؛ لتعود الطيور النازحة إلى أعشاشها المقفرة، ولتبدأ الغصون السليبة تتفطر منها أوراق الأدب الغض، وحينها فقط سيبدأ المثقفون العرب ربيعهم وسيحملون رسالة الزهور إلى كل العالم. وألقاكم. تويتر @aanzs1417